فصل: الباب الثاني في بيوع الربا‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بداية المجتهد وكفاية المقتصد **


 الباب الثاني في أحكام الارتجاع في الطلاق البائن‏.‏

-والطلاق البائن، إما بما دون الثلاث فذلك يقع في غير المدخول بها بلا خلاف، وفي المختلعة باختلاف، وهل يقع أيضا دون عوض‏؟‏ فيه خلاف، وحكم الرجعة بعد هذا الطلاق حكم ابتداء النكاح‏:‏ أعني في اشتراط الصداق والولي والرضا، إلا أنه لا يعتبر فيه انقضاء العدة عند الجمهور؛ وشذ قوم فقالوا‏:‏ المختلعة لا يتزوجها زوجها في العدة ولا غيره، وهؤلاء كأنهم رأوا منع النكاح في العدة عبادة‏.‏ وأما البائنة بالثلاث، فإن العلماء كلهم على أن المطلقة ثلاثا لا تحل لزوجها الأول إلا بعد الوطء لحديث رفاعة بن سموءل ‏"‏أنه طلق امرأته تميمة بنت وهب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا فنكحت عبد الرحمن بن الزبير، فاعترض عنها فلم يستطع أن يمسها ففارقها، فأراد رفاعة زوجها الأول أن ينكحها، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاه عن تزويجها وقال‏:‏ لا تحل لك حتى تذوق العسيلة‏"‏‏.‏ وشذ سعيد بن المسيب فقال‏:‏ إنه جائز أن ترجع إلى زوجها الأول بنفس العقد لعموم قوله تعالى ‏{‏حتى تنكح زوجا غيره‏}‏ والنكاح ينطلق على العقد، وكلهم قال‏:‏ التقاء الختانين يحلها، إلا الحسن البصري فقال‏:‏ لا تحل إلا بوطء بإنزال‏.‏ وجمهور العلماء على أن الوطء الذي يوجب الحد ويفسد الصوم والحج ويحل المطلقة ويحصن الزوجين ويوجب الصداق هو التقاء الختانين‏.‏ وقال مالك وابن القاسم‏:‏ لا يحل المطلقة إلا الوطء المباح الذي يكون في العقد الصحيح في غير صوم أو حج أو حيض أو اعتكاف، ولا يحل الذمية عندهما وطء زوج ذمي لمسلم، ولا وطء من لم يكن بالغا، وخالفهما في ذلك كله الشافعي وأبو حنيفة والثوري والأوزاعي فقالوا‏:‏ يحل الوطء وإن وقع في عقد فاسد أو وقت غير مباح‏.‏ وكذلك وطء المراهق عندهم يحل، ويحل وطء الذمي الذمية للمسلم، وكذلك المجنون عندهم، والخصي الذي يبقى له ما يغيبه في فرج، والخلاف في هذا كله آيل إلى هل يتناول اسم النكاح أصناف الوطء الناقص أم لا يتناوله‏؟‏ واختلفوا من هذا الباب في نكاح المحلل‏:‏ أعني إذا تزوجها على شرط أن يحللها لزوجها الأول؛ فقال مالك‏:‏ النكاح فاسد يفسخ قبل الدخول وبعده، والشرط فاسد لا تحل به، ولا يعتبر في ذلك عنده إرادة المرأة التحليل، وإنما يعتبر عنده إرادة الرجل؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة النكاح جائز، ولا تؤثر النية في ذلك، وبه قال داود وجماعة وقالوا‏:‏ هو محلل للزوج المطلق ثلاثا؛ وقال بعضهم‏:‏ النكاح جائز والشرط باطل‏:‏ أي ليس يحللها، هو قول ابن أبي ليلى، وروي عن الثوري؛ واستدل مالك وأصحابه بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث علي بن أبي طالب وابن مسعود وأبي هريرة وعقبة بن عامر أنه قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏لعن الله المحلل والمحلل له‏"‏ فلعنه إياه كلعنه آكل الربا وشارب الخمر، وذلك يدل على النهي، والنهي يدل على فساد المنهى عنه، واسم النكاح الشرعي لا ينطلق على النكاح المنهي عنه‏.‏ وأما الفريق الآخر فتعلق بعموم قوله تعالى ‏{‏حتى تنكح زوجا غيره‏}‏ وهذا ناكح، وقالوا‏:‏ وليس في تحريم قصد التحليل ما يدل على أن عدمه شرط في صحة النكاح، كما أنه ليس النهي عن الصلاة في الدار المغصوبة، مما يدل على أن من شرط صحة الصلاة صحة ملك البقعة أو الإذن من مالكها في ذلك، قالوا‏:‏ وإذا لم يدل النهي على فساد عقد النكاح فأحرى أن لا يدل على بطلان التحليل، وإنما لم يعتبر مالك قصد المرأة لأنه إذا لم يوافقها على قصدها لم يكن لقصدها معنى مع أن الطلاق ليس بيدها‏.‏ واختلفوا في هل يهدم الزوج ما دون الثلاث‏؟‏ فقال أبو حنيفة يهدم، وقال مالك والشافعي لا يهدم‏:‏ أعني إذا تزوجت قبل الطلقة الثالثة غير الزوج الأول ثم راجعها هل يعتد بالطلاق الأول أم لا‏؟‏ فمن رأى أن هذا شيء يخص الثالثة بالشرع قال‏:‏ لا يهدم ما دون الثالثة عنده؛ ومن رأى أنه إذا هدم الثالثة فهو أحرى أن يهدم ما دونها قال‏:‏ يهدم ما دون الثلاث، والله أعلم‏.‏

 (‏الجملة الرابعة‏)‏ وهذه الجملة فيها بابان، الأول‏:‏ في العدة‏.‏ والثاني‏:‏ في المتعة‏.‏

 الباب الأول في العدة‏.‏

-والنظر في هذا الباب في فصلين‏:‏ الفصل الأول‏:‏ في عدة الزوجات‏:‏ الفصل الثاني‏:‏ في عدة ملك اليمين‏.‏

 الفصل الأول في عدة الزوجات‏.‏ والنظر في عدة الزوجات ينقسم إلى نوعين‏:‏ أحدهما في معرفة العدة‏.‏ والثاني في معرفة أحكام العدة‏.‏

-‏(‏النوع الأول‏)‏ وكل زوجة فهي إما حرة وإما أمة، وكل واحدة من هاتين إذا طلقت فلا يخلو أن تكون مدخولا بها أو غير مدخول بها، فأما غير المدخول بها فلا عدة عليها بإجماع لقوله تعالى ‏{‏فما لكم عليهن من عدة تعتدونها‏}‏ وأما المدخول بها فلا يخلو أن تكون من ذوات الحيض أو من غير ذوات الحيض‏.‏ وغير ذوات الحيض إما صغار وإما يائسات، وذوات الحيض إما حوامل وإما جاريات على عاداتهن في الحيض، وإما مرتفعات الحيض، وإما مستحاضات‏.‏ والمرتفعات الحيض في سن الحيض إما مرتابات بالحمل‏:‏ أي بحس في البطن، وإما غير مرتابات‏.‏ وغير مرتابات إما معروفات سبب انقطاع الحيض من رضاع أو مرض، وإما غير معروفات‏.‏ فأما ذوات الحيض الأحرار الجاريات في حيضهن على المعتاد فعدتهن ثلاثة قروء، والحوامل منهن عدتهن وضع حملهن، واليائسات منهن عدتهن ثلاثة أشهر، ولا خلاف في هذا لأنه منصوص عليه في قوله تعالى ‏{‏والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء‏}‏ الآية، وفي قوله تعالى ‏{‏واللائى يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم‏}‏ الآية‏.‏ واختلفوا من هذه الآية في الأقراء ما هي‏؟‏ فقال قوم‏:‏ هي الأطهار‏:‏ أعني الأزمنة التي بين الدمين‏:‏ وقال قوم‏:‏ هي الدم نفسه، وممن قال إن الأقراء هي الأطهار‏.‏ أما من فقهاء الأمصار فمالك والشافعي وجمهور أهل المدينة وأبو ثور وجماعة، وأما من الصحابة فابن عمر وزيد بن ثابت وعائشة؛ وممن قال إن الأقراء هي الحيض أما من فقهاء الأمصار فأبو حنيفة والثوري والأوزاعي وابن أبي ليلى وجماعة، وأما من الصحابة فعلي وعمر بن الخطاب وابن مسعود وأبو موسى الأشعري‏.‏ وحكى الأثرم عن أحمد أنه قال‏:‏ الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون‏:‏ الأقراء هي الحيض‏.‏ وحكى أيضا عن الشعبي أنه قول أحد عشر أو اثني عشر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأما أحمد بن حنبل فاختلفت الرواية عنه، فروي عنه أنه كان يقول‏:‏ إنها الأطهار على قول زيد بن ثابت وابن عمر وعائشة، ثم توقفت الآن من أجل قول ابن مسعود وعلي هو أنها الحيض، والفرق بين المذهبين هو أن من رأى أنها الأطهار رأى أنها إذا دخلت الرجعية عنده في الحيضة الثالثة لم يكن للزوج عليها رجعة وحلت للأزواج، ومن رأى أنها الحيض لم تحل عنده حتى تنقضي الحيضة الثالثة‏.‏ وسبب الخلاف اشتراك اسم القرء، فإنه يقال في كلام العرب على حد سواء على الدم وعلى الأطهار، وقد رام كلا الفريقين أن يدل على أن اسم القرء في الآية ظاهر في المعنى الذي يراه، فالذين قالوا إنها الأطهار قالوا‏:‏ إن هذا الجمع خاص بالقرء الذي هو الطهر، وذلك أن القرء الذي هو الحيض يجمع على أقراء لا على قروء، وحكوا ذلك عن ابن الأنباري، وأيضا فإنهم قالوا‏:‏ إن الحيضة مؤنثة والطهر مذكر، فلو كان القرء الذي يراد به الحيض لما ثبت في جمعه الهاء، لأن الهاء لا تثبت في جمع المؤنث فيما دون العشرة، وقالوا أيضا‏:‏ إن الاشتقاق يدل على ذلك، لأن القرء مشتق من قرأت الماء في الحوض‏:‏ أي جمعته، فزمان اجتماع الدم هو زمان الطهر، فهذا هو أقوى ما تمسك به الفريق الأول من ظاهر الآية‏.‏ وأما ما تمسك به الفريق الثاني من ظاهر الآية فإنهم قالوا‏:‏ إن قوله تعالى ‏{‏ثلاثة قروء‏}‏ ظاهر في تمام كل قرء منها، لأنه ليس ينطلق اسم القرء على بعضه إلا تجوزا، وإذا وصفت الأقراء بأنها هي الأطهار أمكن أن تكون العدة عندهم بقرءين وبعض قرء، لأنها عندهم تعتد بالطهر الذي تطلق فيه وإن مضى أكثره وإذا كان ذلك كذلك فلا ينطلق عليها اسم الثلاثة إلا تجوزا، واسم الثلاثة ظاهر في كمال كل قرء منها، وذلك لا يتفق إلا بأن تكون الأقراء هي الحيض لأن الإجماع منعقد على أنها إن طلقت في حيضة أنها لا تعتد بها، ولكل واحد من الفريقين احتجاجات متساوية من جهة لفظ القرء، والذي رضيه الحذاق أن الآية مجملة في ذلك، وأن الدليل ينبغي أن يطلب من جهة أخرى؛ فمن أقوى ما تمسك به من رأى أن الأقراء هي الأطهار حديث ابن عمر المتقدم، وقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏مره فليراجعها حتى تحيض ثم تطهر ثم تحيض ثم تطهر، ثم يطلقها إن شاء قبل أن يمسها، فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء‏"‏ قالوا‏:‏ وإجماعهم على أن طلاق السنة لا يكون إلا في طهر لم تمس فيه، وقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء‏"‏ دليل واضح على أن العدة هي الأطهار لكي يكون الطلاق متصلا بالعدة‏.‏ ويمكن أن يتأول قوله ‏{‏فتلك العدة‏}‏ أي فتلك مدة استقبال العدة لئلا يتبعض القرء بالطلاق في الحيض‏.‏

وأقوى ما تمسك به الفريق الثاني أن العدة إنما شرعت لبراءة الرحم، وبراءتها إنما تكون بالحيض لا بالأطهار، ولذلك كان عدة من ارتفع الحيض عنها بالأيام، والحيض هو سبب العدة بالأقراء، فوجب أن تكون الأقراء هي الحيض واحتج من قال الأقراء هي الأطهار بأن المعتبر في براءة الرحم هو النقلة من الطهر إلى الحيض لا انقضاء الحيض، فلا معنى لاعتبار الحيضة الأخيرة، وإذا كان ذلك فالثلاث المعتبر فيهن التمام‏:‏ أعني المشترط هي الأطهار التي بين الحيضتين، ولكلا الفريقين احتجاجات طويلة‏.‏ ومذهب الحنفية أظهر من جهة المعنى، وحجتهم من جهة المسموع متساوية أو قريب من متساوية، ولم يختلف القائلون أن العدة هي الأطهار أنها تنقضي بدخولها في الحيضة الثالثة‏.‏ واختلف الذين قالوا إنها الحيض، فقيل تنقضي بانقطاع الدم من الحيضة الثالثة، وبه قال الأوزاعي؛ وقيل حين تغتسل من الحيضة الثالثة، وبه قال من الصحابة عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود، ومن الفقهاء الثوري وإسحاق ابن عبيد؛ وقيل حتى يمضي وقت الصلاة التي طهرت في وقتها؛ وقيل إن للزوج عليها الرجعة وإن فرطت في الغسل عشرين سنة، حكى هذا عن شريك وقد قيل تنقضي بدخولها في الحيضة الثالثة، وهو أيضا شاذ، فهذه هي حال الحائض التي تحيض‏.‏ وأما التي تطلق فلا تحيض وهي في سن الحيض وليس هناك ريبة حمل ولا سبب من رضاع ولا مرض، فإنها تنتظر عند مالك تسعة أشهر فإن لم تحض فيهن اعتدت بثلاثة أشهر، فإن حاضت قبل أن تستكمل الثلاثة أشهر اعتبرت الحيض واستقبلت انتظاره، فإن مر بها تسعة أشهر قبل أن تحيض الثانية اعتدت ثلاثة أشهر، فإن حاضت قبل أن تستكمل الثلاثة أشهر من العام الثاني انتظرت الحيضة الثالثة، فإن مر بها تسعة أشهر قبل أن تحيض اعتدت ثلاثة أشهر، فإن حاضت الثالثة في الثلاثة الأشهر كانت قد استكملت عدة الحيض وتمت عدتها، ولزوجها عليها الرجعة ما لم تحل‏.‏ واختلف عن مالك متى تعتد بالتسعة أشهر‏؟‏ فقيل من يوم طلقت، وهو قوله في الموطأ؛ وروى ابن القاسم عنه‏:‏ من يوم رفعها حيضتها؛ وقال أبو حنيفة والشافعي والجمهور في التي ترتفع حيضتها وهي لا تيأس منها في المستأنف إنها تبقى أبدا تنتظر حتى تدخل في السن الذي تيأس فيه من المحيض، وحينئذ تعتد بالأشهر وتحيض قبل ذلك؛ وقول مالك مروي عن عمر بن الخطاب وابن عباس، وقول الجمهور قول ابن مسعود وزيد؛ وعمدة مالك من طريق المعنى هو أن المقصود بالعدة إنما هو ما يقع به براءة الرحم ظنا غالبا بدليل أنه قد تحيض الحامل، وإذا كان ذلك كذلك فعدة الحمل كافية في العلم ببراءة الرحم بل هي قاطعة على ذلك، ثم تعتد بثلاثة أشهر عدة اليائسة، فإن حاضت قبل تمام السنة حكم لها بحكم ذوات الحيض، واحتسبت بذلك القرء، ثم تنتظر القرء الثاني أو السنة إلى أن تمضي لها ثلاثة قروء؛ وأما الجمهور فصاروا إلى ظاهر قوله تعالى ‏{‏واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر‏}‏ والتي هي من أهل الحيض ليست بيائسة، وهذا الرأي فيه عسر وحرج؛ ولو قيل إنها تعتد بثلاثة أشهر لكان جيدا إذا فهم من اليائسة التي لا يقطع بانقطاع حيضتها، وكان قوله ‏{‏إن ارتبتم‏}‏ راجعا إلى الحكم لا إلى الحيض على ما تأوله مالك عليه، فكأن مالكا لم يطابق مذهبه تأويله الآية، فإنه فهم من اليائسة هنا من تقطع على أنها ليست من أهل الحيض، وهذا لا يكون إلا من قبل السن، ولذلك جعل قوله ‏{‏إن ارتبتم‏}‏ راجعا إلى الحكم لا إلى الحيض‏:‏ أي إن شككتم في حكمهن، ثم قال في التي تبقى تسعة أشهر لا تحيض وهي في سن من تحيض إنها تعتد بالأشهر؛ وأما إسمعيل وابن بكير من أصحابه، فذهبوا إلى أن الريبة ههنا في الحيض، وأن اليائس في كلام العرب هو مالم يحكم عليه بما يئس منه بالقطع، فطابقوا تأويل الآية مذهبهم الذي هو مذهب مالك، ونعم ما فعلوا لأنه إن فهم ههنا من اليائس القطع فقد يجب أن تنتظر الدم وتعتد به حتى تكون في هذا السن‏:‏ أعني سن اليائس وإن من فهم من اليائس ما لا يقطع بذلك فقد يجب أن تعتد التي انقطع دمها عن العادة وهي في سن من تحيض بالأشهر، وهو قياس قول أهل الظاهر، لأن اليائسة في الطرفين ليس هي عندهم من أهل العدة لا بالأقراء ولا بالشهور‏.‏ وأما الفرق في ذلك بين ما قبل التسعة وما بعدها فاستحسان‏.‏ وأما التي ارتفعت حيضتها لسبب معلوم مثل رضاع أو مرض، فإن المشهور عند مالك أنها تنتظر الحيض قصر الزمان أم طال؛ وقد قيل إن المريضة مثل التي ترتفع حيضتها لغير سبب‏.‏

وأما المستحاضة فعدتها عند مالك سنة إذا لم تميز بين الدمين، فإن ميزت بين الدمين فعنه روايتان‏:‏ إحداهما أن عدتها السنة‏.‏ والأخرى أنها تعمل على التمييز فتعتد بالأقراء؛ وقال أبو حنيفة عدتها الأقراء إن تميزت لها وإن لم تتميز لها فثلاثة أشهر؛ وقال الشافعي‏:‏ عدتها بالتمييز إذا انفصل عنها الدم، فيكون الأحمر القاني من الحيضة، ويكون الأصفر من أيام الطهر، فإن طبق عليها الدم اعتدت بعدد أيام حيضتها في صحتها وإنما ذهب مالك إلى بقاء السنة لأنه جعلها مثل التي لا تحيض وهي من أهل الحيض؛ والشافعي إنما ذهب في العارفة أيامها أنها تعمل على معرفتها قياسا على الصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم للمستحاضة ‏"‏اتركي الصلاة أيام أقرائك فإذا ذهب عنك قدرها فاغسلي الدم‏"‏ وإنما اعتبر التمييز من اعتبره لقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت حبيش ‏"‏إذا كان دم الحيض فإنه دم أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضي وصلي فإنما هو عرق‏"‏ خرجه أبو داود، وإنما ذهب من ذهب إلى عدتها بالشهور إذا اختلط عليها الدم، لأنه معلوم في الأغلب أنها في كل شهر تحيض، وقد جعل الله العدة بالشهور عند ارتفاع الحيض وخفاؤه كارتفاعه‏.‏

وأما المسترابة‏:‏ أعني التي تجد حسا في بطنها تظن به أنه حمل فإنها تمكث أكثر مدة حمل، وقد اختلف فيه فقيل في المذهب أربع سنين، وقيل خمس سنين؛ وقال أهل الظاهر‏:‏ تسعة أشهر، ولا خلاف أن انقضاء عدة الحوامل لوضع حملهن‏:‏ أعني المطلقات لقوله تعالى ‏{‏وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن‏}‏ وأما الزوجات غير الحرائر فإنهن ينقسمن أيضا بتلك الأقسام بعينها، أعني حيضا ويائسات ومستحاضات ومرتفعات الحيض من غير يائسات‏.‏

فأما الحيض اللاتي يأتيهن حيضهن، فالجمهور على أن عدتهن حيضتان؛ وذهب داود وأهل الظاهر إلى أن عدتهن ثلاث حيض كالحرة، وبه قال ابن سيرين‏.‏ فأهل الظاهر اعتمدوا عموم قوله تعالى ‏{‏والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء‏}‏ وهي ممن ينطلق عليها اسم المطلقة‏.‏ واعتمد الجمهور تخصيص هذا العموم بقياس الشبه، وذلك أنهم شبهوا الحيض بالطلاق والحد، أعني كونه متنصفا مع الرق، وإنما جعلوها حيضتين لأن الحيضة الواحدة لا تتبعض‏.‏ وأما الأمة المطلقة اليائسة من المحيض أو الصغيرة فإن مالكا وأكثر أهل المدينة قالوا‏:‏ عدتها ثلاثة أشهر؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأبو ثور وجماعة عدتها شهر ونصف شهر نصف عدة الحرة، وهو القياس إذا قلنا بتخصيص العموم، فكأن مالكا اضطرب قوله، فمرة أخذ بالعموم وذلك في اليائسات، ومرة أخذ بالقياس وذلك في ذوات الحيض، والقياس في ذلك واحد‏.‏ وأما التي ترتفع حيضتها من غير سبب فالقول فيها هو القول في الحرة والخلاف في ذلك، وكذلك المستحاضة واتفقوا على أن المطلقة قبل الدخول لا عدة عليها‏.‏

واختلفوا فيمن راجع امرأته في العدة من الطلاق الرجعي ثم فارقها قبل أن يمسها هل تستأنف عدة أم لا‏؟‏ فقال جمهور فقهاء الأمصار‏:‏ تستأنف؛ وقالت فرقة‏:‏ تبقى في عدتها من طلاقها الأول وهو أحد قولي الشافعي؛ وقال داود‏:‏ ليس عليها أن تتم عدتها ولا عدة مستأنفة‏.‏ وبالجملة فعند مالك أن كل رجعة تهدم العدة وإن لم يكن مسيس، ما خلا رجعة المولى‏:‏ وقال الشافعي؛ إذا طلقها بعد الرجعة وقبل الوطء ثبتت على عدتها الأولى، وقول الشافعي أظهر؛ وكذلك عند مالك رجعة المعسر بالنفقة تقف صحتها عنده على الإنفاق فإن أنفق صحت الرجعة وهدمت العدة إن كان طلاقا، وإن لم ينفق بقيت على عدتها الأولى، وإذا تزوجت ثانيا في العدة فعن مالك في ذلك روايتان‏:‏ إحداهما تداخل العدتين‏.‏ والأخرى نفيه، فوجه الأولى اعتبار براءة الرحم، لأن ذلك حاصل مع التداخل‏.‏ ووجه الثانية كون العدة عبادة، فوجب أن تتعدد بتعدد الوطء الذي له حرمة، وإذا عتقت الأمة في عدة الطلاق مضت على عدة الأمة عند مالك، ولم تنتقل إلى عدة الحرة؛ وقال أبو حنيفة‏:‏ تنتقل في الطلاق الرجعي دون البائن؛ وقال الشافعي‏:‏ تنتقل في الوجهين معا‏.‏ وسبب الخلاف هل العدة من أحكام الزوجية أم من أحكام انفصالها‏؟‏ فمن قال من أحكام الزوجية قال‏:‏ لا تنتقل عدتها؛ ومن قال من أحكام انفصال الزوجية قال‏:‏ تنتقل كما لو أعتقت وهي زوجة ثم طلقت؛ وأما من فرق بين البائن والرجعي فبين، وذلك أن الرجعي فيه شبه من أحكام العصمة، ولذلك وقع فيه الميراث باتفاق إذا مات وهي في عدة من طلاق رجعي، وأنها تنتقل إلى عدة الموت، فهذا هو القسم الأول من قسمي النظر في العدة‏.‏

‏-‏(‏النوع الأول‏)‏ وكل زوجة فهي إما حرة وإما أمة، وكل واحدة من هاتين إذا‏‏

‏(‏القسم الثاني‏)‏ وأما النظر في أحكام العدد، فإنهم اتفقوا على أن للمعتدة الرجعية النفقة والسكنى، وكذلك الحامل لقوله تعالى في الرجعيات ‏{‏أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم‏}‏ الآية، ولقوله تعالى ‏{‏وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن‏}‏ ‏.‏ واختلفوا في سكنى المبتوتة ونفقتها إذا لم تكن حاملا على ثلاثة أقوال‏:‏ أحدها أن لها السكنى والنفقة، وهو قول الكوفيين‏.‏ والقول الثاني أنه لا سكنى لها ولا نفقة، وهو قول أحمد وداود وأبي ثور وإسحاق وجماعة‏.‏ والثالث أن لها السكنى ولا نفقة لها، وهو قول مالك والشافعي وجماعة‏.‏ وسبب اختلافهم اختلاف الرواية في حديث فاطمة بنت قيس ومعارضة ظاهر الكتاب له، فاستدل من لم يوجب لها نفقة ولا سكنى بما روي في حديث فاطمة بنت قيس أنها قالت ‏"‏طلقني زوجي ثلاثا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة‏"‏ خرجه مسلم، وفي بعض الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏إنما السكنى والنفقة لمن لزوجها عليها الرجعة‏"‏ وهذا القول مروي عن علي وابن عباس وجابر ابن عبد الله‏.‏ وأما الذين أوجبوا لها السكنى دون النفقة فإنهم احتجوا بما رواه مالك في موطئه من حديث فاطمة المذكورة، وفيه ‏"‏فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ليس لك عليه نفقة‏"‏ وأمرها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم ولم يذكر فيها إسقاط السكنى، فبقي على عمومه في قوله تعالى ‏{‏أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم‏}‏ وعللوا أمره عليه الصلاة والسلام بأن تعتد في بيت ابن أم مكتوم بأنه كان في لسانها بذاء‏.‏ وأما الذين أوجبوا لها السكنى والنفقة فصاروا إلى وجوب السكنى لها بعموم قوله تعالى ‏{‏أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم‏}‏ وصاروا إلى وجوب النفقة لها لكون النفقة تابعة لوجوب الإسكان في الرجعية وفي الحامل وفي نفس الزوجية‏.‏ وبالجملة فحيثما وجبت السكنى في الشرع وجبت النفقة‏.‏ وروي عن عمر أنه قال في حديث فاطمة هذا‏:‏ لا ندع كتاب نبينا وسنته لقول امرأة، يريد قوله تعالى ‏{‏أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم‏}‏ الآية‏.‏ ولأن المعروف من سنته عليه الصلاة والسلام أنه أوجب النفقة حيث تجب السكنى، فلذلك الأولى في هذه المسألة إما أن يقال إن لها الأمرين جميعا مصيرا إلى ظاهر الكتاب والمعروف من السنة، وإما أن يخصص هذا العموم بحديث فاطمة المذكور‏.‏ وأما التفريق بين إيجاب النفقة والسكنى فعسير، ووجه عسره ضعف دليله‏.‏ وينبغي أن تعلم أن المسلمين اتفقوا على أن العدة تكون في ثلاثة أشياء‏:‏ في طلاق، أو موت، أو اختيار الأمة نفسها إذا اعتقت‏.‏ واختلفوا فيها في الفسوخ، والجمهور على وجوبها‏.‏ ولما كان الكلام في العدة يتعلق فيه أحكام عدة الموت رأينا أن نذكرها ههنا فنقول‏:‏ إن المسلمين اتفقوا على أن عدة الحرة من زوجها الحر أربعة أشهر وعشرا لقوله تعالى ‏{‏يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا‏}‏ ‏.‏ واختلفوا في عدة الحامل وفي عدة الأمة إذا لم تأتها حيضتها في الأربعة الأشهر وعشر فماذا حكمها‏؟‏ فذهب مالك إلى أن من شرط تمام هذه العدة أن تحيض حيضة واحدة في هذه المدة، فإن لم تحض فهي عنده مسترابة فتمكث مدة الحمل؛ وقيل عنه إنها قد لا تحيض وقد لا تكون مسترابة، وذلك إذا كانت عادتها في الحيض أكثر من مدة العدة، وهذا إما غير موجود، أعني من تكون عادتها أن تحيض أكثر من أربعة أشهر إلى أكثر من أربعة أشهر، وإما نادر‏.‏ واختلف عنه فيمن هذه حالها من النساء إذا وجدت، فقيل تنتظر حتى تحيض؛ وروى عنه ابن القاسم تتزوج إذا انقضت عدة الوفاة ولم يظهر بها حمل، وعلى هذا جمهور فقهاء الأمصار أبي حنيفة والشافعي والثوري‏.‏

-‏(‏وأما المسألة الثانية‏)‏ وهي الحامل التي يتوفى عنها زوجها، فقال الجمهور وجميع فقهاء الأمصار‏:‏ عدتها أن تضع حملها مصيرا إلى عموم قوله تعالى ‏{‏وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن‏}‏ وإن كانت الآية في الطلاق وأخذا أيضا بحديث أم سلمة أن سبيعة الأسلمية ولدت بعد وفاة زوجها بنصف شهر وفيه ‏"‏فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها‏:‏ قد حللت فانكحي من شئت‏"‏ وروى مالك عن ابن عباس أن عدتها آخر الأجلين، يريد أنها تعتد بأبعد الأجلين، إما الحمل، وإما انقضاء العدة عدة الموت، وروى مثل ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والحجة لهم أن ذلك هو الذي يقتضيه الجمع بين عموم آية الحوامل وآية الوفاة‏.‏ وأما الأمة المتوفي عنها من تحل له، فإنها لا تخلو أن تكون زوجة أو ملك يمين أو أم ولد أو غير أم ولد، فأما الزوجة فقال الجمهور‏:‏ إن عدتها نصف عدة الحرة قاسوا ذلك على العدة؛ وقال أهل الظاهر‏:‏ بل عدتها عدة الحرة، وكذلك عندهم عدة الطلاق مصيرا إلى التعميم‏.‏ وأما أم الولد فقال مالك والشافعي وأحمد والليث وأبو ثور وجماعة‏:‏ عدتها حيضة، وبه قال ابن عمر‏.‏ وقال مالك‏:‏ وإن كانت ممن لا تحيض اعتدت ثلاثة أشهر، ولها السكنى؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري‏:‏ عدتها ثلاث حيض، وهو قول علي وابن مسعود؛ وقال قوم‏:‏ عدتها نصف عدة الحرة المتوفي عنها زوجها؛ وقال قوم‏:‏ عدتها عدة الحرة أربعة أشهر وعشر؛ وحجة مالك أنها ليست زوجة فتعتد عدة الوفاة ولا مطلقة فتعتد ثلاث حيض، فلم يبق إلا استبراء رحمها، وذلك يكون بحيضة تشبيها بالأمة يموت عنها سيدها، وذلك ما لا خلاف فيه؛ وحجة أبي حنيفة أن العدة إنما وجبت عليها وهي حرة وليست بزوجة فتعتد عدة الوفاة؛ ولا بأمة فتعتد عدة الأمة، فوجب أن تستبرئ رحمها بعدة الأحرار‏.‏ وأما الذين أوجبوا لها عدة الوفاة فاحتجوا بحديث روي عن عمرو بن العاص قال‏:‏ لا تلبسوا علينا سنة نبينا، عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها أربعة أشهر وعشر، وضعف أحمد هذا الحديث ولم يأخذ به‏.‏ وأما من أوجب عليها نصف عدة الحرة تشبيها بالزوجة الأمة‏.‏ فسبب الخلاف أنها مسكوت عنها، وهي مترددة الشبه بين الأمة والحرة‏.‏ وأما من شبهها بالزوجة الأمة فضعيف، وأضعف منه من شبهها بعدة الحرة المطلقة، وهو مذهب أبي حنيفة‏.‏

 الباب الثاني في المتعة‏.‏

-والجمهور على أن المتعة ليست واجبة في كل مطلقة؛ وقال قوم من أهل الظاهر‏:‏ هي واجبة في كل مطلقة؛ وقال قوم‏:‏ هي مندوب إليها وليست واجبة وبه قال مالك‏.‏ والذين قالوا بوجوبها في بعض المطلقات اختلفوا في ذلك؛ فقال أبو حنيفة‏:‏ هي واجبة على من طلق قبل الدخول، ولم يفرض لها صداقا مسمى؛ وقال الشافعي‏:‏ هي واجبة لكل مطلقة إذا كان الفراق من قبله إلا التي سمى لها وطلقت قبل الدخول، وعلى هذا جمهور العلماء‏.‏ واحتج أبو حنيفة بقوله تعالى ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها، فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا‏}‏ فاشترط المتعة مع عدم المسيس، وقال تعالى ‏{‏وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم‏}‏ فعلم أنه لا متعة لها مع التسمية والطلاق قبل المسيس، لأنه إذا لم يجب لها الصداق فأحرى أن لا تجب لها المتعة، وهذا لعمري مخيل، لأنه حيث لم يجب لها صداق أقيمت المتعة مقامه، وحيث ردت من يدها نصف الصداق لم يجب لها شيء‏.‏ وأما الشافعي فيحمل الأوامر الواردة بالمتعة في قوله تعالى ‏{‏ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره‏}‏ على العموم في كل مطلقة إلا التي سمي لها وطلقت قبل الدخول‏.‏ وأما أهل الظاهر فحملوا الأمر على العموم، والجمهور على أن المختلعة لا متعة لها لكونها معطية من يدها كالحال في التي طلقت قبل الدخول وبعد فرض الصداق، وأهل الظاهر يقولون‏:‏ هو شرع فتأخذ وتعطي‏.‏ وأما مالك فإنه حمل الأمر بالمتعة على الندب لقوله تعالى في آخر الآية ‏{‏حقا على المحسنين‏}‏ أي على المتفضلين المتجملين، وما كان من باب الإجمال والإحسان فليس بواجب‏.‏ واختلفوا في المطلقة المعتدة هل عليها إحداد‏؟‏ فقال مالك‏:‏ ليس عليها إحداد‏.‏

 باب في بعث الحكمين‏.‏

-اتفق العلماء على جواز بعث الحكمين إذا وقع التشاجر بين الزوجين وجهلت أحوالهما في التشاجر‏:‏ أعني المحق من المبطل لقوله تعالى ‏{‏وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها‏}‏ الآية، وأجمعوا على أن الحكمين لا يكونان إلا من أهل الزوجين‏:‏ أحدهما من قبل الزوج، والآخر من قبل المرأة، إلا أن لا يوجد في أهلهما من يصلح لذلك فيرسل من غيرهما؛ وأجمعوا على أن الحكمين إذا اختلفا لم ينفذ قولهما؛ وأجمعوا على أن قولهما في الجمع بينهما نافذ بغير توكيل من الزوجين‏.‏ واختلفوا في تفريق الحكمين بينهما إذا اتفقا على ذلك هل يحتاج إلى إذن من الزوج أو لا يحتاج إلى ذلك‏؟‏ فقال مالك وأصحابه‏:‏ يجوز قولهما في الفرقة والاجتماع بغير توكيل الزوجين ولا إذن منهما في ذلك؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما‏:‏ ليس لهما أن يفرقا، إلا أن يجعل الزوج إليهما التفريق‏.‏ وحجة مالك ما رواه من ذلك عن علي بن أبي طالب أنه قال في الحكمين‏:‏ إليهما التفرقة بين الزوجين‏.‏ والجمع‏.‏ وحجة الشافعي وأبي حنيفة أن الأصل أن الطلاق ليس بيد أحد سوى الزوج أو من يوكله الزوج‏.‏ واختلف أصحاب مالك في الحكمين يطلقان ثلاثا، فقال ابن القاسم‏:‏ تكون واحدة، وقال أشهب والمغيرة تكون ثلاثا إن طلقاها ثلاثا‏.‏ والأصل أن الطلاق بيد الرجل إلا أن يقوم دليل على غير ذلك‏.‏ وقد احتج الشافعي وأبو حنيفة بما روي في حديث علي هذا أنه قال للحكمين‏:‏ هل تدريان ما عليكما‏؟‏ إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما، فقالت المرأة رضيت بكتاب الله وبما فيه لي وعلي، فقال الرجل‏:‏ أما الفرقة فلا، فقال علي‏:‏ لا والله لا تنقلب حتى تقر بمثل ما أقرت به المرأة، قال‏:‏ فاعتبر في ذلك إذنه‏.‏ ومالك يشبه الحكمين بالسلطان، والسلطان يطلق بالضرر عند مالك إذا تبين‏.‏

 كتاب الإيلاء‏.‏

-‏(‏بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما‏)‏‏.‏

والأصل في هذا الباب قوله تعالى ‏{‏للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر‏}‏ والإيلاء‏:‏ هو أن يحلف الرجل أن لا يطأ زوجته إما مدة هي أكثر من أربعة أشهر أو أربعة أشهر أو بإطلاق على الاختلاف المذكور في ذلك فيما بعد‏.‏ واختلف فقهاء الأمصار في الإيلاء في مواضع‏:‏ فمنها هل تطلق المرأة بانقضاء الأربعة الأشهر المضروبة بالنص للمولى، أم إنما تطلق بأن يوقف بعد الأربعة الأشهر‏؟‏ فإما فاء وإما طلق‏.‏ ومنها هل الإيلاء يكون بكل يمين أم بالأيمان المباحة في الشرع فقط‏؟‏‏.‏ ومنها إن أمسك عن الوطء بغير يمين هل يكون موليا أم لا‏؟‏‏.‏ ومنها هل المولي هو الذي قيد يمينه بمده من أربعة أشهر فقط أو أكثر من ذلك‏؟‏ أو المولي هو الذي لم يقيد يمينه بمده أصلا‏؟‏‏.‏ ومنها هل طلاق الإيلاء بائن أو رجعي‏؟‏‏.‏ ومنها إن أبى الطلاق والفيء هل يطلق القاضي عليه أم لا‏؟‏‏.‏ ومنها هل يتكرر الإيلاء إذا طلقها ثم راجعها من غير إيلاء حادث في الزواج الثاني‏؟‏‏.‏ ومنها هل من شروط رجعة المولي أن يطأها في العدة أم لا‏؟‏‏.‏ ومنها هل إيلاء العبد حكمه أن يكون مثل إيلاء الحر أم لا‏؟‏‏.‏ ومنها هل إذا طلقها بعد إنقضاء مدة الإيلاء تلزمها عدة أم لا‏؟‏‏.‏ فهذه هي مسائل الخلاف المشهورة في الإيلاء بين فقهاء الأمصار التي تتنزل من هذا الباب منزلة الأصول، ونحن نذكر خلافهم في مسألة مسألة منها، وعيون أدلتهم وأسباب خلافهم على ما قصدنا‏.‏

-‏(‏المسألة الأولى‏)‏ أما اختلافهم هل تطلق بانقضاء الأربعة الأشهر نفسها أم لا تطلق وإنما الحكم أن يوقف فإما فاء وإما طلق‏؟‏ فإن مالكا والشافعي وأحمد وأبا ثور وداود والليث ذهبوا إلى أنه يوقف بعد انقضاء الأربعة الأشهر، فإما فاء وإما طلق، وهو قول علي وابن عمر، وإن كان قد روي عنهما غير ذلك، لكن الصحيح هو هذا؛ وذهب أبو حنيفة وأصحابه والثوري وبالجملة الكوفيون إلى أن الطلاق يقع بانقضاء الأربعة الأشهر إلا أن يفيء فيها، وهو قول ابن مسعود وجماعة من التابعين‏.‏ وسبب الخلاف هل قوله تعالى ‏{‏فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم‏}‏ أي فإن فاءوا قبل انقضاء الأربعة الأشهر أو بعدها‏؟‏ فمن فهم منه قبل انقضائها قال‏:‏ يقع الطلاق، ومعنى العزم عنده في قوله تعالى ‏{‏وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم‏}‏ أن لا يفيء حتى تنقضي المدة فمن فهم من اشتراط الفيئة اشتراطها بعد انقضاء المدة قال‏:‏ معنى قوله ‏{‏وإن عزموا الطلاق‏}‏ أي باللفظ ‏{‏فإن الله سميع عليم‏}‏ ‏.‏ وللمالكية في الآية أربعة أدلة‏:‏ أحدها أنه جعل مدة التربص حقا للزوج دون الزوجة، فأشبهت مدة الأجل في الديون المؤجلة‏.‏ الدليل الثاني أن الله تعالى أضاف الطلاق إلى فعله‏.‏ وعندهم ليس يقع من فعله إلا تجوزا‏:‏ أعني ليس ينسب إليه على مذهب الحنفية إلا تجوزا، وليس يصار إلى المجاز عن الظاهر إلا بدليل‏.‏ الدليل الثالث قوله تعالى ‏{‏وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم‏}‏ قالوا‏:‏ فهذا يقتضي وقوع الطلاق على وجه يسمع، وهو وقوعه باللفظ لا بانقضاء المدة‏.‏ الرابع أن الفاء في قوله تعالى ‏{‏فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم‏}‏ ظاهرة في معنى التعقيب، فدل ذلك على أن الفيئة بعد المدة، وربما شبهوا هذه المدة بمدة العتق‏.‏ وأما أبو حنيفة فإنه اعتمد في ذلك تشبيه هذه المدة بالعدة الرجعية إذ كانت العدة إنما شرعت لئلا يقع منه ندم، وبالجملة فشبهوا الإيلاء بالطلاق الرجعي، وشبهوا المدة بالعدة وهو شبه قوي، وقد روي ذلك عن ابن عباس‏.‏

-‏(‏المسألة الثانية‏)‏ وأما اختلافهم في اليمين التي يكون بها الإيلاء، فإن مالكا قال‏:‏ يقع الإيلاء بكل يمين، وقال الشافعي‏:‏ لا يقع إلا بالأيمان المباحة في الشرع وهي اليمين بالله أو بصفة من صفاته‏.‏ فمالك اعتمد العموم‏:‏ أعني عموم قوله تعالى ‏{‏للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر‏}‏ والشافعي يشبه الإيلاء بيمين الكفارة، وذلك أن كلا اليمينين يترتب عليهما حكم شرعي، فوجب أن تكون اليمين التي ترتب عليها حكم الإيلاء هي اليمين التي يترتب عليها الحكم الذي هو الكفارة‏.‏

-‏(‏المسألة الثالثة‏)‏ وأما لحوق حكم الإيلاء للزوج إذا ترك الوطء بغير يمين، فإن الجمهور على أنه لا يلزمه حكم الإيلاء بغير يمين، ومالك يلزمه وذلك إذا قصد الإضرار بترك الوطء، وإن لم يحلف على ذلك؛ فالجمهور اعتمدوا الظاهر، ومالك اعتمد المعنى، لأن الحكم إنما لزمه باعتقاده ترك الوطء، وسواء شد ذلك الاعتقاد بيمين أو بغير يمين، لأن الضرر يوجد في الحالتين جميعا‏.‏

-‏(‏المسألة الرابعة‏)‏ وأما اختلافهم في مدة الإيلاء، فإن مالكا ومن قال بقوله يرى أن مدة الإيلاء يجب أن تكون أكثر من أربعة أشهر إذ كان الفيء عندهم إنما هو بعد الأربعة الأشهر؛ وأما أبو حنيفة فإن مدة الإيلاء عنده هي الأربعة الأشهر فقط إذ كان الفيء عنده إنما هو فيها؛ وذهب الحسن وابن أبي ليلى إلى أنه إذا حلف وقتا ما وإن كان أقل من أربعة أشهر كان موليا يضرب له الأجل إلى انقضاء الأربعة الأشهر من وقت اليمين‏.‏ وروي عن ابن عباس أن المولي هو من حلف أن لا يصيب امرأته على التأبيد‏.‏ والسبب في اختلافهم في المدة إطلاق الآية، فاختلافهم في وقت الفيء، وفي صفة اليمين ومدته هو كون الآية عامة في هذه المعاني أو مجملة، وكذلك اختلافهم في صفة المولي والمولي منها ونوع الطلاق على ما سيأتي بعد‏.‏ وأما ما سوى ذلك فسبب اختلافهم فيه هو سبب السكوت عنها، وهذه هي أركان الإيلاء‏:‏ أعني معرفة نوع اليمين ووقت الفيء والمدة وصفة المولي والمولي منها ونوع الطلاق الواقع فيه‏.‏

-‏(‏المسألة الخامسة‏)‏ فأما الطلاق التي يقع بالإيلاء فعند مالك والشافعي أنه رجعي، لأن الأصل أن كل طلاق وقع بالشرع أنه يحمل على أنه رجعي إلى أن يدل الدليل على أنه بائن؛ وقال أبو حنيفة وأبو ثور‏:‏ هو بائن، وذلك أنه إن كان رجعيا لم يزل الضرر عنها بذلك لأنه يجبرها على الرجعة‏.‏ فسبب الاختلاف معارضة المصلحة المقصودة بالإيلاء للأصل المعروف في الطلاق، فمن غلب الأصل قال‏:‏ رجعي، ومن غلب المصلحة قال‏:‏ بائن‏.‏

-‏(‏المسألة السادسة‏)‏ وأما هل يطلق القاضي إذا أبى الفيء أو الطلاق أو يحبس حتى يطلق، فإن مالكا قال‏:‏ يطلق القاضي عليه؛ وقال أهل الظاهر‏:‏ يحبس حتى يطلقها بنفسه‏.‏ وسبب الخلاف معارضة الأصل المعروف في الطلاق للمصلحة؛ فمن راعى الأصل المعروف في الطلاق قال‏:‏ لا يقع الطلاق إلا من الزوج؛ ومن راعى الضرر الداخل من ذلك على النساء قال‏:‏ يطلق السلطان وهو نظر إلى المصلحة العامة، وهذا هو الذي يعرف بالقياس المرسل والمنقول عن مالك العمل به، وكثير من الفقهاء يأبى ذلك‏.‏

-‏(‏المسألة السابعة‏)‏ وأما هل يتكرر الإيلاء إذا طلقها ثم راجعها‏؟‏ فإن مالكا يقول‏:‏ إذا راجعها فلم يطأها تكرر الإيلاء عليه، وهذا عنده في الطلاق الرجعي والبائن‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ الطلاق البائن يسقط الإيلاء وهو أحد قولي الشافعي، وهذا القول هو الذي اختاره المزني وجماعة العلماء على أن الإيلاء لا يتكرر؛ بعد الطلاق إلا بإعادة اليمين‏.‏ والسبب في اختلافهم معارضة المصلحة لظاهر شرط الإيلاء، وذلك أنه لا إيلاء في الشرع إلا حيث يكون يمين في ذلك النكاح بنفسه لا في نكاح آخر، ولكن إذا راعينا هذا وجد الضرر المقصود إزالته بحكم الإيلاء، ولذلك رأى مالك أنه لا يحكم بحكم الإيلاء بغير يمين إذا وجد معنى الإيلاء‏.‏

-‏(‏المسألة الثامنة‏)‏ وأما هل تلزم الزوجة المولي منها عدة أو ليس تلزمها‏؟‏ فإن الجمهور على أن العدة تلزمها؛ وقال جابر بن زيد‏:‏ لا تلزمها عدة إذا كانت قد حاضت في مدة الأربعة الأشهر ثلاث حيض، وقال بقوله طائفة‏:‏ وهو مروي عن ابن عباس‏.‏ وحجته أن العدة إنما وضعت لبراءة الرحم، وهذه قد حصلت لها البراءة‏.‏ وحجة الجمهور أنها مطلقة فوجب أن تعتد كسائر المطلقات‏.‏ وسبب الخلاف أن العدة جمعت عبادة ومصلحة؛ فمن لحظ جانب المصلحة لم ير عليها عدة، ومن لحظ جانب العبادة أوجب عليها العدة‏.‏

-‏(‏المسألة التاسعة‏)‏ وأما إيلاء العبد، فإن مالكا قال‏:‏ إيلاء العبد شهران على النصف من إيلاء الحر، قياسا على حدوده وطلاقه؛ وقال الشافعي وأهل الظاهر‏:‏ إيلاؤه مثل إيلاء الحر أربعة أشهر تمسكا بالعموم، والظاهر أن تعلق الأيمان بالحر والعبد سواء، والإيلاء يمين، وقياسا أيضا على مدة العنين؛ وقال أبو حنيفة‏:‏ النقص الداخل على الإيلاء معتبر بالنساء لا بالرجال كالعدة، فإن كانت المرأة حرة كان الإيلاء إيلاء الحر وإن كان الزوج عبدا، وإن كانت أمة فعلى النصف؛ وقياس الإيلاء على الحد غير جيد، وذلك أن العبد إنما كان حده أقل من حد الحر، لأن الفاحشة منه أقل قبحا، ومن الحر أعظم قبحا، ومدة الإيلاء إنما ضربت جمعا بين التوسعة على الزوج وبين إزالة الضرر عن الزوجة، فإذا فرضنا مدة أقصر من هذه كان أضيق على الزوج وأنفى للضرر عن الزوجة، والحر أحق بالتوسعة ونفي الضرر عنه، فلذلك كان يجب على هذا القياس أن لا ينقص من الإيلاء إلا إذا كان الزوج عبدا والزوجة حرة فقط، وهذا لم يقل به أحد، فالواجب التسوية‏.‏ والذين قالوا بتأثير الرق في مدة الإيلاء اختلفوا في زوال الرق بعد الإيلاء، هل ينتقل إلى إيلاء الأحرار أم لا‏؟‏ فقال مالك‏:‏ لا ينتقل من إيلاء العبيد إلى إيلاء الأحرار؛ وقال أبو حنيفة‏:‏ ينتقل؛ فعنده أن الأمة إذا عتقت وقد آلى زوجها منها انتقلت إلى إيلاء الأحرار؛ وقال ابن القاسم‏:‏ الصغيرة التي لا يجامع مثلها لا إيلاء عليها، فإن وقع وتمادى حسبت الأربعة الأشهر من يوم بلغت، وإنما قال ذلك لأنه لا ضرر عليها في ترك الجماع؛ وقال أيضا‏:‏ لا إيلاء على خصي ولا على من لا يقدر على الجماع‏.‏

-‏(‏المسألة العاشرة‏)‏ وأما هل من شرط رجعة المولي أن يطأ في العدة أم لا‏؟‏ فإن الجمهور ذهبوا إلى أن ذلك ليس من شرطها؛ وأما مالك فإنه قال‏:‏ إذا لم يطأ فيها من غير عذر مرض أو ما أشبه ذلك فلا رجعة عنده له عليها وتبقى على عدتها، ولا سبيل له إليها إذا انقضت العدة‏.‏ وحجة الجمهور أنه لا يخلو أن يكون الإيلاء يعود برجعته إياها في العدة أو لا يعود، فإن عاد لم يعتبر واستؤنف الإيلاء من وقت الرجعة؛ أعني تحسب مدة الإيلاء من وقت الرجعة، وإن لم يعد إيلاء لم يعتبر أصلا إلا على مذهب من يرى أن الإيلاء يكون بغير يمين، وكيفما كان فلا بد من اعتبار الأربعة الأشهر من وقت الرجعة؛ وأما مالك فإنه قال‏:‏ كل رجعة من طلاق كان لرفع ضرر، فإن صحة الرجعة معتبرة فيه بزوال ذلك الضرر، وأصله المعسر بالنفقة إذا طلق عليه ثم ارتجع، فإن رجعته تعتبر صحتها بيساره‏.‏ فسبب الخلاف قياس الشبه، وذلك أن من شبه الرجعة بابتداء النكاح أوجب فيها تجدد الإيلاء، ومن شبه هذه الرجعة برجعة المطلق لضرر لم يرتفع منه ذلك الضرر قال‏:‏ يبقى على الأصل‏.‏

 كتاب الظهار‏.‏

-والأصل في الظهار الكتاب والسنة‏.‏ فأما الكتاب فقوله تعالى ‏{‏والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة‏}‏ الآية‏.‏ وأما السنة فحديث خولة بنت مالك بن ثعلبة قالت ‏"‏ظاهر مني زوجي أويس ابن الصامت، فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أشكو إليه، ورسول الله يجادلني فيه ويقول‏:‏ اتقي الله فإنه ابن عمك، فما خرجت حتى أنزل الله ‏{‏قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما‏}‏ الآيات، فقال‏:‏ ليعتق رقبة، قالت‏:‏ لا يجد، قال‏:‏ فيصوم شهرين متتابعين، قالت‏:‏ يا رسول الله إنه شيخ كبير ما به من صيام، قال‏:‏ فليطعم ستين مسكينا، قالت‏:‏ ما عنده من شيء يتصدق به، قال‏:‏ فإني سأعينه بعرق من تمر، قالت‏:‏ وأنا أعينه بعرق آخر، قال‏:‏ لقد أحسنت اذهبي فأطعمي عنه ستين مسكينا‏"‏ خرجه أبو داود‏.‏ وحديث سلمة بن صخر البياضي عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

والكلام في أصول الظهار ينحصر في سبعة فصول‏:‏ منها في ألفاظ الظهار‏.‏ ومنها في شروط وجوب الكفارة فيه‏.‏ ومنها فيمن يصح فيه الظهار‏.‏ ومنها فيما يحرم على المظاهر‏.‏ ومنها هل يتكرر الظهار بتكرر النكاح‏؟‏‏.‏ ومنها هل يدخل الإيلاء عليه‏؟‏‏.‏ ومنها القول في أحكام كفارة الظهار‏.‏

 الفصل الأول في ألفاظ الظهار‏.‏

-واتفق العلماء على أن الرجل إذا قال لزوجته‏:‏ أنت علي كظهر أمي أنه ظهار، واختلفوا إذا ذكر عضوا غير الظهر، أو ذكر ظهر من تحرم عليه من المحرمات النكاح على التأبيد غير الأم، فقال مالك‏:‏ هو ظهار؛ وقال جماعة من العلماء‏:‏ لا يكون ظهارا إلا بلفظ الظهر والأم‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ يكون بكل عضو يحرم النظر إليه‏.‏ وسبب اختلافهم معارضة المعنى للظاهر، وذلك أن معنى التحريم تستوي فيه الأم وغيرها من المحرمات والظهر وغيره من الأعضاء، وأما الظاهر من الشرع، فإنه يقتضي أن لا يسمى ظهارا إلا ما ذكر فيه لفظ الظهر والأم‏.‏ وأما إذا قال‏:‏ هي علي كأمي ولم يذكر الظهر، فقال أبو حنيفة والشافعي‏:‏ ينوي في ذلك لأنه قد يريد بذلك الإجلال لها وعظم منزلتها عنده؛ وقال مالك‏:‏ هو ظهار‏.‏ وأما من شبه زوجته بأجنبية لا تحرم عليه على التأبيد، فإنه ظهار عند مالك، وعند ابن الماجشون ليس بظهار، وسبب الخلاف هل تشبيه الزوجة بمحرمة غير مؤبدة التحريم كتشبيهها بمؤبدة التحريم‏؟‏‏.‏

 الفصل الثاني في شروط وجوب الكفارة فيه‏.‏

-وأما شروط وجوب الكفارة، فإن الجمهور على أنها لا تجب دون العود، وشذ مجاهد وطاوس فقالا‏:‏ لا تجب دون العود، ودليل الجمهور قوله تعالى ‏{‏والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة‏}‏ وهو نص في معنى وجوب تعلق الكفارة بالعود، وأيضا فمن طريق القياس، فإن الظهار يشبه الكفارة في اليمين، فكما أن الكفارة إنما تلزم بالمخالفة أو بإرادة المخالفة، كذلك الأمر في الظهار‏.‏ وحجة مجاهد وطاوس أنه معنى يوجب الكفارة العليا فوجب أن يوجبها بنفسه لا بمعنى زائد تشبيها بكفارة القتل والفطر؛ وأيضا قالوا‏:‏ إنه كان طلاق الجاهلية فنسخ تحريمه بالكفارة، وهو معنى قوله تعالى ‏{‏ثم يعودون لما قالوا‏}‏ والعود عندهم هو العود في الإسلام‏.‏ فأما القائلون باشتراط العود في إيجاب الكفارة، فإنهم اختلفوا فيه ما هو‏؟‏ فعن مالك في ذلك ثلاث روايات‏:‏ إحداهن أن العود هو أن يعزم على إمساكها والوطء معا‏.‏ والثانية أن يعزم على وطئها فقط، وهي الرواية الصحيحة المشهورة عن أصحابه، وبه قال أبو حنيفة وأحمد‏.‏ والرواية الثالثة أن العود هو نفس الوطء، وهي أضعف الروايات عند أصحابه‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ العود هو الإمساك نفسه، قال‏:‏ ومن مضى له زمان يمكنه أن يطلق فيه ولم يطلق ثبت أنه عائد ولزمته الكفارة، لأن إقامته زمانا يمكن أن يطلق فيه من غير أن يطلق يقوم مقام إرادة الإمساك منه، أو هو دليل ذلك‏.‏ وقال داود وأهل الظاهر‏:‏ العود هو أن يكرر لفظ الظهار ثانية، ومتى لم يفعل ذلك فليس بعائد ولا كفارة عليه، فدليل الرواية المشهورة لمالك ينبني على أصلين‏:‏ أحدهما أن المفهوم من الظهار هو أن الوجوب الكفارة فيه إنما يكون بإرادته العود إلى ما حرم على نفسه بالظهار وهو الوطء، وإذا كان ذلك كذلك وجب أن تكون العودة هي إما الوطء نفسه، وإما العزم عليه وإرادته‏.‏ والأصل الثاني ليس يمكن أن يكون العود نفسه هو وطء لقوله تعالى في الآية ‏{‏فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا‏}‏ ولذلك كان الوطء محرما حتى يُكَفَر‏.‏ قالوا‏:‏ ولو كان العود نفسه هو الإمساك لكان الظهار نفسه يحرم الإمساك فكان الظهار يكون طلاقا‏.‏ وبالجملة فالمعول عليه عندهم في هذه المسألة هو الطريق الذي يعرفه الفقهاء بطريق السبر والتقسيم، وذلك أن معنى العود لا يخلو أن يكون تكرار اللفظ على ما يراه داود أو الوطء نفسه أو الإمساك نفسه أو إرادة الوطء، ولا يكون تكرار اللفظ، لأن ذلك تأكيد والتأكيد لا يوجب الكفارة ولا يكون إرادة الإمساك للوطء، فإن الإمساك موجود بعد، فقد بقي أن يكون إرادة الوطء، وإن كان إرادة الإمساك للوطء فقد أراد الوطء، فثبت أن العود هو الوطء‏.‏ ومعتمد الشافعية في إجرائهم إرادة الإمساك، أو الإمساك مجرى إرادة الوطء أن الإمساك يلزم عنه الوطء فجعلوا لازم الشيء مشبها بالشيء، وجعلوا حكمهما واحدا، وهو قريب من الرواية الثانية؛ وربما استدلت الشافعية على أن إرادة الإمساك هو السبب في وجوب الكفارة أن الكفارة ترتفع بارتفاع الإمساك، وذلك إذا طلق أثر الظهار، ولهذا احتاط مالك في الرواية الثانية، فجعل العود هو إرادة الأمرين جميعا‏:‏ أعني الوطء والإمساك؛ وإما أن يكون العود الوطء فضعيف مخالف للنص، والمعتمد فيها تشبيه الظهار باليمين‏:‏ أي كما أن كفارة اليمين إنما تجب بالحنث كذلك الأمر ههنا، وهو قياس شبه عارضه النص‏.‏ وأما داود فإنه تعلق بظاهر اللفظ في قوله تعالى ‏{‏ثم يعودون لما قالوا‏}‏ وذلك يقتضي الرجوع إلى القول نفسه‏.‏ وعند أبي حنيفة أنه العود في الإسلام إلى ما تقدم من ظهارهم في الجاهلية‏:‏ وعند مالك والشافعي أن المعنى في الآية‏:‏ ثم يعودون فيما قالوا‏.‏ وسبب الخلاف بالجملة إنما هو مخالفة الظاهر للمفهوم؛ فمن اعتمد المفهوم جعل العودة إرادة الوطء أو الإمساك، وتأول معنى اللام في قوله تعالى ‏{‏ثم يعودون لما قالوا‏}‏ بمعنى الفاء؛ وأما من اعتمد الظاهر فإنه جعل العودة تكرير اللفظ، وأن العودة الثانية إنما هي ثانية للأولى التي كانت منهم في الجاهلية‏.‏ ومن تأول أحد هذين، فالأشبه له أن يعتقد أن بنفس الظهار تجب الكفارة كما اعتقد ذلك مجاهد، إلا أن يقدر في الآية محذوفا وهو إرادة الإمساك، فهنا إذا ثلاثة مذاهب‏:‏ إما أن تكون العودة هي تكرار اللفظ، وإما أن تكون إرادة الإمساك، وإما أن تكون العودة التي هي في الإسلام، وهذان ينقسمان قسمين‏:‏ أعني الأول والثالث‏.‏ أحدهما أن يقدر في الآية محذوفا، وهو إرادة الإمساك فيشترط هذه الإرادة في وجوب الكفارة، وإما ألا يقدر فيها محذوفا فتجب الكفارة بنفس الظهار‏.‏ واختلفوا من هذا الباب في فروع وهو‏:‏ هل إذا طلق قبل إرادة الإمساك أو ماتت عنه زوجته هل تكون عليه كفارة أم لا‏؟‏ فجمهور العلماء على أن لا كفارة عليه إلا أن يطلق بعد إرادة العودة أو بعد الإمساك بزمان طويل على ما يراه الشافعي‏.‏ وحكي عن عثمان البتي أن عليه الكفارة بعد الطلاق، وأنها إذا ماتت قبل إرادة العودة لم يكن له سبيل إلى ميراثها إلا بعد الكفارة، وهذا شذوذ مخالف للنص، والله أعلم‏.‏

 الفصل الثالث فيمن يصح فيه الظهار‏.‏

-واتفقوا على لزوم الظهار من الزوجة التي في العصمة، واختلفوا في الظهار من الأمة ومن التي في غير العصمة، وكذلك اختلفوا في ظهار المرأة من الرجل، فأما الظهار من الأمة فقال مالك والثوري وجماعة‏:‏ الظهار منها لازم كالظهار من الزوجة الحرة، وكذلك المدبرة وأم الولد؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وأبو ثور‏:‏ لا ظهار من أمة؛ وقال الأوزاعي‏:‏ إن كان يطأ أمته فهو منها مظاهر، وإن لم يطأها فهي يمين وفيها كفارة يمين؛ وقال عطاء‏:‏ هو مظاهر لكن عليه نصف كفارة‏.‏ فدليل من أوقع ظهار الأمة عموم قوله تعالى ‏{‏والذين يظاهرون من نسائهم‏}‏ والإماء من النساء‏.‏ وحجة من لم يجعله ظهارا أنهم قد أجمعوا أن النساء في قوله تعالى ‏{‏للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر‏}‏ هن ذوات الأزواج، فكذلك اسم النساء في آية الظهار، فسبب الخلاف معارضة قياس الشبه للعموم‏:‏ أعني تشبيه الظهار بالإيلاء وعموم لفظ النساء، أعني أن عموم اللفظ يقتضي دخول الإماء في الظهار وتشبيهه بالإيلاء يقتضي خروجهن من الظهار‏.‏ وأما هل من شرط الظهار كون المظاهر منها في العصمة أم لا‏؟‏ فمذهب مالك أن ذلك ليس من شرطه، وأن من عين امرأة ما بعينها وظاهر منها بشرط التزويج كان مظاهرا منها، وكذلك إن لم يعين وقال كل امرأة أتزوجها فهي مني كظهر أمي، وذلك بخلاف الطلاق وبقول مالك في الظهار قال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي؛ وقال قائلون‏:‏ لا يلزم الظهار إلا فيما يملك الرجل، وممن قال بهذا القول الشافعي وأبو ثور وداود؛ وفرق قوم فقالوا‏:‏ إن أطلق لم يلزمه ظهار وهو أن يقول‏:‏ كل امرأة أتزوجها فهي مني كظهر أمي، فإن قيد لزمه وهو أن يقول‏:‏ إن تزوجت فلانة أو سمى قرية أو قبيلة، وقائل هذا القول هو ابن أبي ليلى والحسن بن حيي‏.‏ ودليل الفريق الأول قوله تعالى ‏{‏أوفوا بالعقود‏}‏ ولأنه عقد على شرط الملك فأشبه إذا ملك، والمؤمنون عند شروطهم وهو قول عمر‏.‏ وأما حجة الشافعي فحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏لا طلاق إلا فيما يملك ولا عتق إلا فيما يملك، ولا بيع إلا فيما يملك، ولا وفاء بنذر إلا فيما يملك‏"‏ خرجه أبو داود والترمذي والظهار شبيه بالطلاق، وهو قول ابن عباس‏.‏ وأما الذين فرقوا بين التعميم والتعيين، فإنهم رأوا أن التعميم في الظهار من باب الحرج، وقد قال الله تعالى ‏{‏وما جعل عليكم في الدين من حرج‏}‏ ‏.‏ واختلفوا أيضا من هذا الباب في هل تظاهر المرأة من الرجل‏؟‏ فعن العلماء في ثلاثة أقوال‏:‏ أشهرها أنه لا يكون منها ظهار، وهو قول مالك والشافعي‏.‏ والثاني أن عليها كفارة يمين‏.‏ والثالث أن عليها كفارة الظهار‏.‏ ومعتمد الجمهور تشبيه الظهار بالطلاق، ومن ألزم المرأة الظهار فتشبيهها للظهار باليمين؛ ومن فرق فلأنه رأى أن أقل اللازم لها في ذلك المعنى هو كفارة يمين وهو ضعيف‏.‏ وسبب الخلاف تعارض الأشباه في هذا المعنى‏.‏

 الفصل الرابع فيما يحرم على المظاهر‏.‏

-واتفقوا على أن المظاهر يحرم عليه الوطء، واختلفوا فيما دونه من ملامسة ووطء في غير الفرج ونظر اللذة، فذهب مالك إلى أنه يحرم الجماع وجميع أنواع الاستمتاع مما دون الجماع من الوطء فيما دون الفرج واللمس والتقبيل والنظر للذة ما عدا وجهها وكفيها ويديها من سائر بدنها ومحاسنها، وبه قال أبو حنيفة إلا أنه إنما كره النظر للفرج فقط؛ وقال الشافعي‏:‏ إنما يحرم الظهار الوطء في الفرج فقط المجمع عليه لا ما عدا ذلك، وبه قال الثوري وأحمد وجماعة‏.‏ ودليل مالك قوله تعالى ‏{‏من قبل أن يتماسا‏}‏ وظاهر لفظ التماس يقتضي المباشرة فيما فوقها، ولأنه أيضا لفظ حرمت به عليه فأشبه لفظ الطلاق، ودليل قول الشافعي أن المباشرة كناية عن الجماع بدليل إجماعهم على أن الوطء محرم عليه، وإذا دلت على الجماع لم تدل على ما فوق الجماع، لأنها إما أن تدل على ما فوق الجماع، وإما أن تدل على الجماع، وهي الدلالة المجازية، لكن قد اتفقوا على أنها دالة على الجماع فانتفت الدلالة المجازية، إذ لا يدل لفظ واحد دلالتين حقيقة ومجازا‏.‏ قلت‏:‏ الذين يرون أن اللفظ المشترك له عموم لا يبعد أن يكون اللفظ الواحد عندهم يتضمن المعنيين جميعا‏:‏ أعني الحقيقة والمجاز، وإن كان لم تجر به عادة للعرب، ولذلك القول به في غاية من الضعف، ولو علم أن للشرع فيه تصرفا لجاز، وأيضا فإن الظهار مشبه عندهم بالإيلاء، فوجب أن يختص عندهم بالفرج‏.‏

 الفصل الخامس هل يتكرر الظهار بتكرر النكاح‏.‏

-وأما تكرر الظهار بعد الطلاق‏:‏ أعني إذا طلقها بعد الظهار قبل أن يُكَفر ثم راجعها هل يتكرر عليها الظهار فلا يحل له المسيس حتى يكفر فيه خلاف‏.‏ قال مالك‏:‏ إن طلقها دون الثلاث ثم راجعها في العدة أو بعدها فعليه الكفارة، وقال الشافعي‏:‏ إن راجعها في العدة فعليه الكفارة، وإن راجعها في غير العدة فلا كفارة عليه؛ وعنه قول آخر مثل قول مالك‏.‏ وقال محمد بن الحسن‏:‏ الظهار راجع عليها نكحها بعد الثلاث أو بعد واحدة، وهذه المسألة شبيهة بمن يحلف بالطلاق ثم يطلق ثم يراجع هل تبقى تلك اليمين عليه أم لا‏؟‏‏.‏ وسبب الخلاف هل الطلاق يرفع جميع أحكام الزوجية ويهدمها، أو لا يهدمها‏؟‏ فمنهم من رأى أن البائن الذي هو الثلاث يهدم، وأن ما دون الثلاث لا يهدم؛ ومنهم من رأى أن الطلاق كله غير هادم، وأحسب أن من الظاهرية من يرى أنه كله هادم‏.‏

 الفصل السادس في دخول الإيلاء عليه‏.‏

-وأما هل يدخل الإيلاء على الظهار إذا كان مضارا، وذلك بأن لا يُكَفِر مع قدرته على الكفارة‏؟‏ فإن فيه أيضا اختلافا، فأبو حنيفة والشافعي يقولان‏:‏ لا يتداخل الحكمان لأن حكم الظهار خلاف حكم الإيلاء، وسواء كان عندهم مضارا أو لم يكن، وبه قال الأوزاعي وأحمد وجماعة‏.‏ وقال مالك‏:‏ يدخل الإيلاء على الظهار بشرط أن يكون مضارا‏.‏ وقال الثوري‏:‏ يدخل الإيلاء على الظهار، وتبين منه بانقضاء الأربعة الأشهر من غير اعتبار المضارة، ففيه ثلاثة أقوال‏:‏ قول إنه يدخل بإطلاق، وقول إنه لا يدخل بإطلاق، وقول إنه يدخل مع المضارة ولا يدخل مع عدمها‏.‏ وسبب الخلاف مراعاة المعنى واعتبار الظاهر؛ فمن اعتبر الظاهر قال‏:‏ لا يتداخلان؛ ومن اعتبر المعنى قال‏:‏ يتداخلان إذا كان القصد الضرر‏.‏

 الفصل السابع في أحكام كفارة الظهار‏.‏

-والنظر في كفارة الظهار في أشياء منها في عدد أنواع الكفارة وترتيبها، وشروط نوع منها‏:‏ أعني الشروط المصححة، ومتى تجب كفارة واحدة‏؟‏ ومتى تجب أكثر من واحدة‏.‏ فأما أنواعها فإنهم أجمعوا على أنها ثلاثة أنواع‏:‏ إعتاق رقبة، أو صيام شهرين، أو إطعام ستين مسكينا، وأنها على الترتيب‏.‏ فالإعتاق أولا، فإن لم يكن فالصيام، فإن لم يكن فالإطعام، هذا في الحر‏.‏ واختلفوا في العبد يكفر بالعتق أو بالإطعام بعد اتفاقهم أن الذي يبدأ به الصيام أعني إذا عجز عن الصيام، فأجاز للعبد العتق إن أذن له سيده أبو ثور وداود وأبى ذلك سائر العلماء‏.‏ وأما الإطعام فأجازه له مالك إن أطعم بإذن سيده، ولم يجز ذلك أبو حنيفة والشافعي، ومبنى الخلاف في هذه المسألة هل يملك العبد أو لا يملك‏؟‏‏.‏ وأما اختلافهم في الشروط المصححة‏:‏ فمنها اختلافهم إذا وطئ في صيام الشهرين هل عليه استئناف الصيام أم لا‏؟‏ فقال مالك وأبو حنيفة‏:‏ يستأنف الصيام، إلا أن أبا حنيفة شرط في ذلك العمد، ولم يفرق مالك بين العمد في ذلك والنسيان؛ وقال الشافعي‏:‏ لا يستأنف على حال، وسبب الخلاف تشبيه كفارة الظهار بكفارة اليمين والشرط الذي ورد في كفارة الظهار‏:‏ أعني أن تكون قبل المسيس؛ فمن اعتبر هذا الشرط قال‏:‏ يستأنف الصوم؛ ومن شبهه بكفارة اليمين قال‏:‏ لا يستأنف، لأن الكفارة في اليمين ترفع الحنث بعد وقوعه باتفاق‏.‏ ومنها هل من شرط الرقبة أن تكون مؤمنة أم لا‏؟‏ فذهب مالك والشافعي إلى أن ذلك شرط في الإجزاء؛ وقال أبو حنيفة‏:‏ يجزي في ذلك رقبة الكافر، ولا يجزي عندهم إعتاق الوثنية والمرتدة‏.‏ دليل الفريق الأول أنه إعتاق على وجه القربة فوجب أن تكون مسلمة أصله الإعتاق في كفارة القتل؛ وربما قالوا إن هذا ليس من باب القياس، وإنما هو من باب حمل المطلق على المقيد، وذلك أنه قيد الرقبة بالإيمان في كفارة القتل وأطلقها في كفارة الظهار فيجب صرف المطلق إلى المقيد، وهذا النوع من حمل المطلق على المقيد فيه خلاف، والحنفية لا يجيزونه، وذلك أن الأسباب في القضيتين مختلفة‏.‏

وأما حجة أبي حنيفة فهو ظاهر العموم، ولا معارضة عنده بين المطلق والمقيد، فوجب عنده أن يحمل كل على لفظه‏.‏ ومنها اختلافهم هل من شرط الرقبة أن تكون سالمة من العيوب أم لا‏؟‏ ثم إن كانت سليمة فمن أي العيوب تشترط سلامتها‏؟‏ فالذي عليه الجمهور أن للعيوب تأثيرا في منع إجزاء العتق؛ وذهب قوم إلى أنه ليس لها تأثير في ذلك‏.‏ وحجة الجمهور تشبيهها بالأضاحي والهدايا لكون القربة تجمعها‏.‏ وحجة الفريق الثاني إطلاق اللفظ في الآية‏.‏ فسبب الخلاف معارضة الظاهر لقياس الشبه‏.‏ والذين قالوا إن للعيوب تأثيرا في منع الإجزاء اختلفوا في عيب عيب مما يعتبر في الإجزاء أو عدمه‏.‏ أما العمى وقطع اليدين أو الرجلين فلا خلاف عندهم في أنه مانع للإجزاء، واختلفوا فيما دون ذلك؛ فمنها هل يجوز قطع اليد الواحدة‏؟‏ أجازه أبو حنيفة، ومنعه مالك والشافعي‏.‏ وأما الأعور فقال مالك‏:‏ لا يجزي، وقال عبد الملك‏:‏ يجزي‏.‏ وأما قطع الأذنين فقال مالك‏:‏ لا يجزي، وقال أصحاب الشافعي‏:‏ يجزي‏.‏ وأما الأصم فاختلف فيه في مذهب مالك، فقيل يجزي، وقيل لا يجزي‏.‏ وأما الأخرس فلا يجزي عند مالك، وعن الشافعي في ذلك قولان‏.‏ أما المجنون فلا يجزي، أما الخصي فقال ابن القاسم‏:‏ لا يعجبني الخصي، وقال غيره‏:‏ لا يجزي، وقال الشافعي‏:‏ يجزي‏.‏ وإعتاق الصغير جائز في قول عامة فقهاء الأمصار، وحكى عن بعض المتقدمين منعه، والعرج الخفيف في المذهب يجزي، أما العرج البين فلا‏.‏ والسبب في اختلافهم‏:‏ اختلافهم في قدر النقص المؤثر في القربة، وليس له أصل في الشرع إلا الضحايا‏.‏ وكذلك لا يجزي في المذهب ما فيه شركة أو طرف حرية كالكتابة والتدبير لقوله تعالى ‏{‏فتحرير رقبة‏}‏ والتحرير هو إبداء الإعتاق، وإذا كان فيه عقد من عقود الحرية كالكتابة كان تنجيزا لا إعتاق، وكذلك الشركة لأن بعض الرقبة ليس برقبة‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ إن كان المكاتب أدى شيئا من مال الكتابة لم يجز، وإن كان لم يؤد جاز‏.‏ واختلفوا هل يجزيه عتق مدبره‏؟‏ فقال مالك‏:‏ لا يجزيه تشبيها بالكتابة لأنه عقد ليس له حله؛ وقال الشافعي‏:‏ يجزيه؛ ولا يجزي عند مالك إعتاق أم ولده ولا المعتق إلى أجل مسمى‏.‏ أما عتق أم الولد فلأن عقدها آكد من عقد الكتابة والتدبير، بدليل أنهما قد يطرأ عليهما الفسخ‏.‏ أما في الكتابة فمن العجز عن أداء النجوم‏.‏ وأما في التدبير فإذا ضاق عنه الثلث‏.‏ وأما العتق إلى أجل فإنه عقد عتق لا سبيل إلى حله‏.‏

واختلف مالك والشافعي مع أبي حنيفة في إجزاء عتق من يعتق عليه بالنسب، فقال مالك والشافعي‏:‏ لا يجزي عنه وقال أبو حنيفة‏:‏ إذا نوى به عتقه عن ظهار أجزأ‏.‏ فأبو حنيفة شبهه بالرقبة التي لا يجب عتقها، وذلك أن كل واحدة من الرقبتين غير واجب عليه شراؤها وبذل القيمة فيها على وجه العتق، فإذا نوى بذلك التكفير جاز؛ والمالكية والشافعية رأت أنه إذا اشترى من يعتق عليه عتق عليه من غير قصد إلى إعتاقه فلا يجزيه، فأبو حنيفة أقام القصد للشراء مقام العتق، وهؤلاء قالوا‏:‏ لابد أن يكون قاصدا للعتق نفسه، فكلاهما يسمى معتقا باختياره، ولكن أحدهما معتق بالاختيار الأول، والآخر معتق بلازم الاختيار، فكأنه معتق على القصد الثاني ومشتر على القصد الأول، والآخر بالعكس‏.‏ واختلف مالك والشافعي فيمن أعتق نصفي عبدين، فقال مالك‏:‏ لا يجوز ذلك، وقال الشافعي‏:‏ يجوز لأنه في معنى الواحد، ومالك تمسك بظاهر دلالة اللفظ، فهذا ما اختلفوا فيه من شروط الرقبة المعتقة‏.‏

وأما شروط الإطعام فإنهم اختلفوا من ذلك في القدر الذي يجزي لمسكين مسكين من الستين مسكينا الذين وقع عليهم النص، فعن مالك في ذلك روايتان أشهرهما أن ذلك مد بمد هشام لكل واحد، وذلك مدان بمد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قيل هو أقل، وقد قيل هو مد وثلث‏.‏ وأما الرواية الثانية فمد مد لكل مسكين بمد النبي صلى الله عليه وسلم، وبه قال الشافعي‏.‏ فوجه الرواية الأولى اعتبار الشبع غالبا‏:‏ أعني الغذاء والعشاء، ووجه هذه الرواية الثانية اعتبار هذه الكفارة بكفارة اليمين، فهذا هو اختلافهم في شروط الصحة في الواجبات في هذه الكفارة‏.‏

وأما اختلافهم في مواضع تعددها ومواضع اتحادها، فمنها إذا ظاهر بكلمة واحدة من نسوة أكثر من واحدة هل يجزي ذلك في كفارة واحدة، أم يكون عدد الكفارات على عدد النسوة‏؟‏ فعند مالك أنه يجزي في ذلك كفارة واحدة، وعند الشافعي وأبي حنيفة أن فيها من الكفارات بعدد المظاهر منهن إن إثنتين فاثنتين، وإن ثلاثا فثلاثا، وإن أكثر فأكثر، فمن شبهه بالطلاق أوجب في كل واحدة كفارة؛ ومن شبهه بالإيلاء أوجب فيه كفارة واحدة، وهو بالإيلاء أشبه‏.‏ ومنها إذا ظاهر من امرأته في مجالس شتى هل عليه كفارة واحدة، أو على عدد المواضع التي ظاهر فيها‏؟‏ فقال مالك‏:‏ ليس عليه إلا كفارة واحدة، إلا أن يظاهر ثم يكفر ثم يظاهر فعليه كفارة ثانية، وبه قال الأوزاعي وأحمد وإسحاق؛ وقال أبو حنيفة والشافعي‏:‏ لكل ظهار كفارة‏.‏ وأما إذا كان ذلك في مجلس واحد فلا خلاف عند مالك أن في ذلك كفارة واحدة وعند أبي حنيفة أن ذلك راجع إلى نيته، فإن قصد التأكيد كانت الكفارة واحدة، وإن أراد استئناف الظهار كان ما أراد ولزمه من الكفارات على عدد الظهار‏.‏ وقال يحيى بن سعيد‏:‏ تلزم الكفارة على عدد الظهار سواء كان في مجلس واحد أو في مجالس شتى‏.‏

والسبب في هذا الاختلاف أن الظهار الواحد بالحقيقة هو الذي يكون بلفظ واحد من امرأة واحدة في وقت واحد، والمتعدد بلا خلاف هو الذي يكون بلفظتين من امرأتين في وقتين، فإن كرر اللفظ من امرأة واحدة، فهل يوجب تعدد اللفظ تعدد الظهار، أم لا يوجب ذلك فيه تعددا‏؟‏ وكذلك إن كان اللفظ واحد والمظاهر منها أكثر من واحدة‏؟‏ وذلك أن هذه بمنزلة المتوسطات بين ذينك الطرفين؛ فمن غلب عليه شبه الطرف الواحد أوجب له حكمه؛ ومن غلب عليه شبه الطرف الثاني أوجب له حكمه‏.‏ ومنها إذا ظاهر من امرأته ثم مسها قبل أن يكفر هل عليه كفارة واحدة أم لا‏؟‏ فأكثر فقهاء الأمصار ومالك والشافعي وأبو حنيفة والثوري والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود والطبري وأبو عبيد أن في ذلك كفارة واحدة، والحجة لهم حديث سلمة بن صخر البياضي ‏"‏أنه ظاهر من امرأته في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وقع بامرأته قبل أن يكفر، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فأمره أن يكفر تكفيرا واحدا‏"‏ وقال قوم‏:‏ عليه كفارتان‏:‏ كفارة العزم على الوطء، وكفارة الوطء، لأنه وطئ وطأ محرما، وهو مروي عن عمرو ابن العاص وقبيصة بن ذؤيب وسعيد بن جبير وابن شهاب؛ وقد قيل‏:‏ إنه لا يلزمه شيء لا عن العود ولا عن الوطء، لأن الله تعالى اشترط صحة الكفارة قبل المسيس، فإذا مس فقد خرج وقتها فلا تجب إلا بأمر مجدد، وذلك معلوم في مسئلتنا وفيه شذوذ‏.‏ وقال أبو محمد بن حزم‏:‏ من كان فرضه الإطعام فليس يحرم عليه المسيس قبل الإطعام، وإنما يحرم المسيس على من كان فرضه العتق أو الصيام‏.‏

 كتاب اللعان

-والقول فيه يشتمل على خمسة فصول بعد القول بوجوبه‏:‏ الفصل الأول‏:‏ في أنواع الدعاوي الموجبة له وشروطها‏.‏ الفصل الثاني‏:‏ في صفات المتلاعنين‏.‏ الثالث‏:‏ في صفة اللعان‏.‏ الرابع‏:‏ في حكم نكول أحدهما أو رجوعه‏.‏ الخامس‏:‏ في الأحكام اللازمة لتمام اللعان‏.‏

-فأما الأصل في وجوب اللعان، أما من الكتاب فقوله تعالى ‏{‏والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم‏}‏ الآية‏.‏ وأما من السنة فما رواه مالك وغيره من مخرجي الصحيح من حديث عويمر العجلاني ‏"‏إذ جاء إلى عاصم بن عدي العجلاني رجل من قومه فقال له‏:‏ يا عاصم أرايت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلوه‏؟‏ أم كيف يفعل‏؟‏ سل يا عاصم عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عاصم عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رجع عاصم‏؟‏ إلى أهله جاء عويمر فقال‏:‏ يا عاصم ماذا قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقال لم تأتني بخير، قد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألة التي سألت عنها، فقال‏:‏ والله لا أنتهي حتى أسأله عنها، فأقبل عويمر حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسط الناس فقال‏:‏ يا رسول الله أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلوه أم كيف يفعل‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ قد نزل فيك وفي صاحبتك قرآن فاذهب فأت بها، وقال مهل‏:‏ فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغا من تلاعنهما قال عويمر‏:‏ كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏قال مالك‏:‏ قال ابن شهاب‏:‏ فلم تزل تلك سنة المتلاعنين‏.‏ وأيضا من جهة المعنى لما كان الفراش موجبا للحوق النسب كان بالناس ضرورة إلى طريق ينفونه به إذا تحققوا فساده وتلك الطريق هي اللعان، فاللعان حكم ثابت بالكتاب والسنة والقياس والإجماع، إذ لا خلاف في ذلك أعلمه، فهذا هو القول في إثبات حكمه‏.‏

 الفصل الأول في أنواع الدعاوي الموجبة له وشروطها‏.‏

-وأما صور الدعاوي التي يجب بها اللعان فهي أولا صورتان‏:‏ إحداهما دعوى الزنى، والثانية نفي الحمل‏.‏ ودعوى الزنى لا يخلو أن تكون مشاهدة‏:‏ أعني أن يدعي أنه شاهدها تزني كما يشهد الشاهد على الزنى، وأن تكون دعوى مطلقة‏.‏ وإذا نفي الحمل فلا يخلو أن ينفيه أيضا نفيا مطلقا، أو يزعم أنه لم يقربها بعد استبرائها، فهذه أربعة أحوال بسائط، وسائر الدعاوي تتركب عن هذه، مثل أن يرميها بالزنى وينفي الحمل، أو يثبت الحمل ويرميها بالزنى‏.‏ فأما وجوب اللعان بالقذف بالزنا إذا ادعى الرؤية فلا خلاف فيه، قالت المالكية‏:‏ إذا زعم أنه لم يطأها بعد؛ وأما وجوب اللعان بمجرد القذف، فالجمهور على جوازه الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأحمد وداود وغيرهم‏.‏ وأما المشهور عن مالك، فإنه لا يجوز اللعان عنده بمجرد القذف، وقد قال ابن القاسم أيضا إنه يجوز، وهي أيضا رواية عن مالك‏.‏ وحجة الجمهور عموم قوله تعالى ‏{‏والذين يرمون أزواجهم‏}‏ الآية‏.‏ ولم يخص في الزنى صفة دون صفة، كما قال في إيجاب حد القذف‏.‏ وحجة مالك ظواهر الأحاديث الواردة في ذلك‏.‏ منها قوله في حديث سعد ‏"‏أرأيت لو أن رجلا وجد مع امرأته رجلا‏"‏ وحديث ابن عباس، وفيه ‏"‏فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ والله يا رسول الله لقد رأيت بعيني وسمعت بأذني، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به واشتد عليه، فنزلت ‏{‏والذين يرمون أزواجهم‏}‏ الآية‏"‏ وأيضا فإن الدعوى يجب أن تكون ببينة كالشهادة‏.‏ وفي هذا الباب فرع اختلف فيه قول مالك، وهو إذا ظهر بها حمل بعد اللعان، فعن مالك في ذلك روايتان‏:‏ إحداهما سقوط الحمل عنه، والأخرى لحوقه به‏.‏ واتفقوا فيما أحسب أن من شرط الدعوى الموجبة اللعان برؤية الزنى أن تكون في العصمة‏.‏ واختلفوا فيمن قذف زوجته بدعوى الزنى ثم طلقها ثلاثا هل يكون بينهما لعان أم لا‏؟‏ فقال مالك والشافعي والأوزاعي وجماعة‏:‏ بينهما لعان؛ وقال أبو حنيفة‏:‏ لا لعان بينهما إلا أن ينفي ولدا ولا حد؛ وقال مكحول والحكم وقتادة يحد ولا يلاعن‏.‏ وأما إن نفي الحمل فإنه كما قلنا على وجهين‏:‏ أحدهما أن يدعي أنه استبرأها ولم يطأها بعد الاستبراء، وهذا ما لا خلاف فيه‏.‏ واختلف قول مالك في الاستبراء، فقال مرة‏:‏ ثلاث حيض، وقال مرة‏:‏ حيضة‏.‏ وأما نفيه مطلقا، فالمشهور عن مالك أنه لا يجب بذلك لعان‏.‏

وخالفه في هذا الشافعي وأحمد وداود، وقالوا‏:‏ لا معنى لهذا لأن المرأة قد تحمل مع رؤية الدم؛ وحكى عبد الوهاب عن أصحاب الشافعي أنه لا يجوز نفي الحمل مطلقا من غير قذف‏.‏ واختلفوا من هذا الباب في فرع، وهو وقت نفي الحمل فقال الجمهور‏:‏ ينفيه وهي حامل، وشرط مالك أنه متى لم ينفه وهو حمل لم يجز له أن ينفيه بعد الولادة بلعان؛ وقال الشافعي‏:‏ إذا علم الزوج بالحمل فأمكنه الحاكم من اللعان فلم يلاعن لم يكن له أن ينفيه بعد الولادة؛ وقال أبو حنيفة‏:‏ لا ينفي الولد حتى تضع وحجة مالك ومن قال بقوله الآثار المتواترة من حديث ابن عباس وابن مسعود وأنس وسهل بن سعد ‏"‏أن النبي عليه الصلاة والسلام حين حكم باللعان بين المتلاعنين قال‏:‏ إن جاءت به على صفة كذا فما أراه إلا قد صدق عليها‏"‏ قالوا‏:‏ وهذا يدل على أنها كانت حاملا في وقت اللعان‏.‏ وحجة أبي حنيفة أن الحمل قد ينفش ويضمحل، فلا وجه للعان إلا على يقين‏.‏ ومن حجة الجمهور أن الشرع قد علق بظهور الحمل أحكاما كثيرة‏:‏ كالنفقة والعدة ومنع الوطء، فوجب أن يكون قياس اللعان كذلك، وعند أبي حنيفة أنه يلاعن وإن لم ينف الحمل إلا وقت الولادة، وكذلك ما قرب من الولادة ولم يوقت في ذلك وقتا، ووقتا صاحباه أبو يوسف ومحمد فقالا‏:‏ له أن ينفيه ما بين أربعين ليلة من وقت الولادة؛ والذين أوجبوا اللعان في وقت الحمل اتفقوا على أنه له نفيه في وقت العصمة، واختلفوا في نفيه بعد الطلاق، فذهب مالك إلى أنه له ذلك في جميع المدة التي يلحق الولد فيها بالفراش، وذلك هو أقصى زمان الحمل عنده وذلك نحو من أربع سنين عنده أو خمس سنين، وكذلك عنده حكم نفي الولد بعد الطلاق إذا لم يزل منكرا له، وبقريب من هذا المعنى قال الشافعي وقال قوم‏:‏ ليس له أن ينفي الحمل إلا في العدة فقط، وإن نفاه في غير العدة حده وألحق به الولد، فالحكم يجب به عند الجمهور إلى انقضاء أطول مدة الحمل على اختلافهم في ذلك، فإن الظاهرية ترى أن أقصر مدة الحمل التي يجب بها الحكم هو المعتاد من ذلك، وهي التسعة أشهر وما قاربها،

ولا اختلاف بينهم أنه يجب الحكم به في مدة العصمة، فما زاد على أقصر مدة الحمل وهي الستة أشهر‏:‏ أعني أن يولد المولود لستة أشهر من وقت الدخول أو بإمكانه، لامن وقت العقد، وشذ أبو حنيفة فقال من وقت العقد وإن علم أن الدخول غير ممكن حتى أنه إن تزوج عنده رجل بالمغرب الأقصى امرأة بالمشرق الأقصى فجاءت بولد لرأس ستة أشهر من وقت العقد أنه يلحق به إلا أن ينفيه بلعان، وهو في هذه المسألة ظاهري محض، لأنه إنما اعتمد في ذلك عموم قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏الولد للفراش‏"‏ وهذه المرأة قد صارت فراشا له بالعقد، فكأنه رأى أن هذه عبادة غير معللة، وهذا شيء ضعيف‏.‏ واختلف قول مالك من هذا الباب في فرع، وهو أنه إذا ادعى أنها زنت واعترف بالحمل فعنه في ذلك ثلاث روايات‏:‏ إحداها أنه يحد ويلحق به الولد ولا يلاعن‏.‏ والثانية أنه يلاعن وينفي الولد‏.‏ والثالثة أنه يلحق به الولد ويلاعن ليدرأ الحد عن نفسه‏.‏ وسبب الخلاف هل يلتفت إلى إثباته مع موجب نفيه وهو دعواه الزنى‏؟‏ واختلفوا أيضا من هذا الباب في فرع، وهو إذا أقام الشهود على الزنى هل له يلاعن أم لا‏؟‏ فقال أبو حنيفة وداود‏:‏ لا يلاعن، لأن اللعان إنما جعل عوض الشهود لقوله تعالى ‏{‏والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم‏}‏ الآية‏.‏ وقال مالك والشافعي‏:‏ يلاعن، لأن الشهود لا تأثير لهم في دفع الفراش‏.‏

 الفصل الثاني في صفات المتلاعنين‏.‏

-وأما صفة المتلاعنين، فإن قوما قالوا‏:‏ يجوز اللعان بين كل زوجين حرين كانا أو عبدين، أو أحدهما حر والآخر عبد محدودين كانا أو عدلين أو أحدهما، مسلمين كانا أو كان الزوج مسلما والزوجة كتابية، ولا لعان بين كافرين إلا أن يترافعا إلينا، وممن قال بهذا القول مالك والشافعي؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ لا لعان إلا بين مسلمين حرين عدلين‏.‏ وبالجملة فاللعان عندهم إنما يجوز لمن كان من أهل الشهادة‏.‏ وحجة أصحاب القول الأول عموم قوله تعالى ‏{‏والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم‏}‏ ولم يشترط في ذلك شرطا‏.‏ ومعتمد الحنفية أن اللعان شهادة، فيشترط فيها ما يشترط في الشهادة، إذ قد سماهم الله شهداء لقوله ‏{‏فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله‏}‏ ويقولون إنه لا يكون لعان إلا بين من يجب عليه الحد في القذف الواقع بينهما‏.‏ وقد اتفقوا على أن العبد لا يحد بقذفه، وكذلك الكافر، فشبهوا من يجب عليه اللعان بمن يجب في قذفه الحد، إذ كان اللعان إنما وضع لدرء الحد مع نفي النسب، وربما احتجوا بما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏لا لعان بين أربعة‏:‏ العبدين، والكافرين‏"‏ والجمهور يرون أنه يمين وإن كان يسمى شهادة، فإن أحدا لا يشهد لنفسه، وأما أن الشهادة قد يعبر عنها باليمين فذلك بين في قوله تعالى ‏{‏إذا جاءك المنافقون قالوا‏}‏ الآية، ثم قال ‏{‏اتخذوا أيمانهم جنة‏}‏ وأجمعوا على جواز لعان الأعمى، واختلفوا في الأخرس، فقال مالك والشافعي يلاعن الأخرس إذا فهم عنه، وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يلاعن لأنه ليس من أهل الشهادة، وأجمعوا على أن من شرطه العقل والبلوغ‏.‏

 الفصل الثالث في صفة اللعان‏.‏

-فأما صفة اللعان فمتقاربة عند جمهور العلماء، وليس بينهم في ذلك كبير خلاف، وذلك على ظاهر ما تقتضيه ألفاظ الآية، فيحلف الزوج أربع شهادات بالله لقد رأيتها تزني وأن ذلك الحمل ليس مني، ويقول في الخامسة‏:‏ لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم تشهد هي أربع شهادات بنقيض ما شهد هو به ثم تخمس بالغضب، هذا كله متفق عليه‏.‏ واختلف الناس هل يجوز أن يبدل مكان اللعنة الغضب، ومكان الغضب اللعنة، ومكان أشهد أقسم، ومكان قوله بالله غيره من أسمائه‏؟‏ والجمهور على أنه لا يجوز من ذلك إلا ما نص عليه من هذه الألفاظ أصله عدد الشهادات، وأجمعوا على أن من شرط صحته أن يكون بحكم حاكم‏.‏

 الفصل الرابع في حكم نكول أحدهما أو رجوعه‏.‏

-فأما إذا نكل الزوج فقال الجمهور‏:‏ إنه يحد، وقال أبو حنيفة‏:‏ إنه لا يحد ويحبس‏.‏ وحجة الجمهور عموم قوله تعالى ‏{‏والذين يرمون المحصنات‏}‏ الآية، وهذا عام في الأجنبي والزوج، وقد جعل الالتعان للزوج مقام الشهود، فوجب إذا نكل أن يكون بمنزلة من قذف ولم يكن له شهود‏:‏ أعني أنه يحد، وما جاء أيضا من حديث ابن عمرو وغيره في قصة العجلاني من قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏إن قتلت قتلت، وإن نطقت جلدت، وإن سكت سكت على غيظ‏"‏‏.‏ واحتج الفريق الثاني بأن آية اللعان لم تتضمن إيجاب الحد عليه عند النكول والتعريض لأيجابه زيادة في النص، والزيادة عندهم نسخ، والنسخ لا يجوز بالقياس ولا بأخبار الآحاد، قالوا‏:‏ وأيضا لو وجب الحد لم ينفعه الالتعان ولا كان له تأثير في إسقاطه، لأن الالتعان يمين فلم يسقط به الحد عن الأجنبي، فكذلك الزوج، والحق أن الالتعان يمين مخصوصة، فوجب أن يكون لها حكم مخصوص، وقد نص على المرأة أن اليمين يدرأ عنها العذاب، فالكلام فيما هو العذاب الذي يندرئ عنها باليمين، وللاشتراك الذي في اسم العذاب اختلفوا أيضا في الواجب عليها إذا نكلت، فقال الشافعي ومالك وأحمد والجمهور‏:‏ إنها تحد وحدها الرجم إن كان دخل بها ووجدت فيها شروط الإحصان، وإن لم يكن دخل بها فالجلد‏.‏ وقال أبو حنيفة إذا نكلت وجب عليها الحبس حتى تلاعن، وحجته قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث‏:‏ زنى بعد إحصان، أو كفر بعد إيمان، أو قتل نفس بغير نفس‏"‏ وأيضا فإن سفك الدم بالنكول حكم ترده الأصول، فإنه إذا كان كثير من الفقهاء لا يوجبون غرم المال بالنكول فكان بالحري أن لا يجب بذلك سفك الدماء‏.‏ وبالجملة فقاعدة الدماء مبناها في الشرع على أنها لا تراق إلا بالبينة العادلة أو بالاعتراف، ومن الواجب ألا تخصص هذه القاعدة بالاسم المشترك فأبو حنيفة في هذه المسألة أولى بالصواب إن شاء الله‏.‏ وقد اعترف أبو المعالي في كتابه البرهان بقوة أبي حنيفة في هذه المسألة وهو شافعي‏.‏ واتفقوا على أنه إذا أكذب نفسه حد وألحق به الولد إن كان نفى ولدا‏.‏ واختلفوا هل له أن يراجعها بعد اتفاق جمهورهم على أن الفرقة تجب باللعان، إما بنفسه وإما بحكم حاكم على ما نقوله بعد؛ فقال مالك والشافعي والثوري وداود وأحمد وجمهور فقهاء الأمصار إنهما لا يجتمعان أبدا وإن أكذب نفسه؛ وقال أبو حنيفة وجماعة‏:‏ إذا أكذب نفسه جلد الحد وكان خاطبا من الخطاب؛ وقد قال قوم‏:‏ ترد إليه امرأته‏.‏ وحجة الفريق الأول قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏لا سبيل لك عليها‏"‏ ولم يستثن فأطلق التحريم‏.‏ وحجة الفريق الثاني أنه إذا أكذب نفسه فقد بطل حكم اللعان، فكما يلحق به الولد كذلك ترد المرأة عليه، وذلك أن السبب الموجب للتحريم إنما هو الجهل بتعيين صدق أحدهما مع القطع بأن أحدهما كاذب، فإذا انكشف ارتفع التحريم‏.‏

 الفصل الخامس في الأحكام اللازمة لتمام اللعان‏.‏

-فأما موجبات اللعان، فإن العلماء اختلفوا من ذلك في مسائل‏:‏ منها هل تجب الفرقة أم لا‏؟‏ وإن وجبت فمتى تجب‏؟‏ وهل تجب بنفس اللعان أم بحكم حاكم‏؟‏ وإذا وقعت فهل هي طلاق أو فسخ‏؟‏ فذهب الجمهور إلى أن الفرقة تقع باللعان لما اشتهر من ذلك في أحاديث اللعان ‏"‏من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرق بينهما‏"‏ وقال ابن شهاب فيما رواه مالك عنه‏:‏ فكانت تلك سنة المتلاعنين، ولقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏لا سبيل لك عليها‏"‏ وقال عثمان البتي وطائفة من أهل البصرة‏:‏ لا يعقب اللعان فرقة، واحتجوا بأن ذلك حكم لم تتضمنه آية اللعان، ولا هو صريح في الأحاديث، لأن في الحديث المشهور أنه طلقها بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكر ذلك عليه‏.‏ وأيضا فإن اللعان إنما شرع لدرء حد القذف، فلم يوجب تحريما تشبيها بالبينة‏.‏ وحجة الجمهور أنه قد وقع بينهما من التقاطع والتباغض والتهاتر وإبطال حدود الله ما أوجب أن لا يجتمعا بعدها أبدا، وذلك أن الزوجية مبناها على المودة والرحمة وهؤلاء قد عدموا ذلك كل العدم، ولا أقل من أن تكون عقوبتهما الفرقة‏.‏ وبالجملة فالقبح الذي بينهما غاية القبح‏.‏ وأما متى تقع الفرقة فقال مالك والليث وجماعة‏:‏ إنها تقع إذا فرغا جميعا من اللعان‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ إذا أكمل الزوج لعانه وقعت الفرقة‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ لا تقع إلا بحكم حاكم، وبه قال الثوري وأحمد‏.‏ وحجة مالك على الشافعي حديث ابن عمر قال ‏"‏فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المتلاعنين وقال‏:‏ حسابكما على الله، أحدكما كاذب لا سبيل لك عليها‏"‏ وما روي أنه لم يفرق بينهما إلا بعد تمام اللعان‏.‏ وحجة الشافعي أن لعانها إنما تدرء به الحد عن نفسها فقط، ولعان الرجل هو المؤثر في نفي النسب، فوجب إن كان للعان تأثير في الفرقة أن يكون لعان الرجل تشبيها بالطلاق‏.‏ وحجتهما جميعا على أبي حنيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهما بوقوع الفرقة عند وقوع اللعان منهما، فدل ذلك على أن اللعان هو سبب الفرقة‏.‏ وأما أبو حنيفة فيرى أن الفراق إنما نفذ بينهما بحكمه وأمره صلى الله عليه وسلم بذلك حين قال ‏"‏لا سبيل لك عليها‏"‏ فرأى أن حكمه شرط في وقوع الفرقة كما أن حكمه شرط في صحة اللعان‏.‏ فسبب الخلاف بين من رأى أنه تقع به الفرقة، وبين من لم ير ذلك أن تفريق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما ليس هو بينا في الحديث المشهور، لأنه بادر بنفسه فطلق قبل أن يخبره بوجوب الفرقة، والأصل أن لا فرقة إلا بطلاق، وأنه ليس في الشرع تحريم يتأبد‏:‏ أعني متفقا عليه، فمن غلب هذا الأصل على المفهوم لاحتماله نفي وجوب الفرقة ‏(‏هكذا الأصول، ولعل فيه سقطا هكذا‏:‏ ومن قال بالمفهوم قال بإيجابها، تأمل ا هـ مصححه‏)‏‏.‏ قال بإيجابها‏.‏ وأما سبب اختلاف من اشترط حكم الحاكم أو لم يشترطه فتردد هذا الحكم بين أن يغلب عليه شبه الأحكام التي يشترط في صحتها حكم الحاكم أو التي لا يشترط ذلك فيها‏.‏ وأما المسألة الرابعة، وهي إذا قلنا إن الفرقة تقع فهل ذلك فسخ أو طلاق، فإن القائلين بالفرقة اختلفوا في ذلك، فقال مالك والشافعي‏:‏ هو فسخ، وقال أبو حنيفة‏:‏ هو طلاق بائن‏.‏ وحجة مالك تأبيد التحريم به فأشبه ذات المحرم‏.‏

وأما أبو حنيفة فشبهها بالطلاق قياسا على فرقة العنين إذ كانت عنده بحكم حاكم‏.‏

 كتاب الإحداد‏.‏

-أجمع المسلمون على أن الإحداد واجب على النساء الحرائر المسلمات في عدة الوفاة إلا الحسن وحده‏.‏ واختلفوا فيما سوى ذلك من الزوجات وفيما سوى عدة الوفاة، وفيما تمتنع الحادة منه مما لا تمتنع، فقال مالك‏:‏ الإحداد على المسلمة والكتابية والصغيرة والكبيرة‏.‏ وأما الأمة يموت عنها سيدها سواء كانت أم ولد أم لم تكن فلا إحداد عليها عنده، وبه قال فقهاء الأمصار، وخالف قول مالك المشهور في الكتابية ابن نافع وأشهب، وروياه عن مالك، وبه قال الشافعي‏:‏ أعني أنه لا إحداد على الكتابية؛ وقال أبو حنيفة‏:‏ ليس على الصغيرة ولا على الكتابية إحداد؛ وقال قوم‏:‏ ليس على الأمة المزوجة إحداد، وقد حكي ذلك عن أبي حنيفة، فهذا هو اختلافهم المشهور فيمن عليه إحداد من أصناف الزوجات ممن ليس عليه إحداد‏.‏ وأما اختلافهم من قبل العدد فإن مالكا قال‏:‏ لا إحداد إلا في عدة الوفاة‏.‏ وقال أبو حنيفة والثوري‏:‏ الإحداد في العدة من الطلاق البائن واجب؛ وأما الشافعي فاستحسنه للمطلقة ولم يوجبه‏.‏ وأما الفصل الثالث وهو ما تمتنع الحادة منه مما لا تمتنع عنه، فإنها تمتنع عند الفقهاء بالجملة من الزينة الداعية للرجال إلى النساء، وذلك كالحلي والكحل إلا ما لم تكن فيه زينة ولباس الثياب المصبوغة إلا السواد، فإنه لم يكره مالك لها لبس السواد، ورخص كلهم في الكحل عند الضرورة، فبعضهم اشترط فيه ما لم يكن فيه زينة، وبعضهم لم يشترطه، وبعضهم اشترط جعله بالليل دون النهار‏.‏ وبالجملة فأقاويل الفقهاء فيما تجتنب الحادة متقاربة، وذلك ما يحرك الرجال بالجملة إليهن‏.‏ وإنما صار الجمهور لإيجاب الإحداد في الجملة لثبوت السنة بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنها حديث أم سلمة زوج النبي عليه الصلاة والسلام ‏"‏أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ يا رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها، وقد اشتكت عينيها أفتكتحلهما‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا، مرتين أو ثلاثا، كل ذلك يقول لها لا، ثم قال‏:‏ إنما هي أربعة أشهر وعشر وقد كانت إحداكن ترمي بالبعرة على رأس الحول‏"‏ وقال أبو محمد‏:‏ فعلى هذا الحديث يجب التعويل على القول بإيجاب الإحداد‏.‏ وأما حديث أم حبيبة حين دعت بالطيب فمسحت به عارضيها، ثم قالت‏:‏ والله مالي به من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‏"‏لا يحل لامرأة مؤمنة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا‏"‏ فليس فيه حجة، لأنه استثناء من حظر فهو يقتضي الإباحة دون الإيجاب‏.‏ وكذلك حديث زينب بنت جحش‏.‏ قال القاضي‏:‏ وفي الأمر إذا ورد بعد الحظر خلاف بين المتكلمين‏:‏ أعني هل يقتضي الوجوب أو الإباحة‏.‏ وسبب الخلاف بين من أوجبه على المسلمة دون الكافرة أن من رأى أن الإحداد عبادة لم يلزمه الكافرة؛ ومن رأى أنه معنى معقول، وهو تشوف الرجال إليها وهي إلى الرجال، سوى بين الكافرة والمسلمة؛ ومن راعى تشوف الرجال دون تشوف النساء فرق بين الصغيرة والكبيرة إذا كانت الصغيرة لا يتشوف الرجال إليها‏.‏ ومن حجة من أوجبه على المسلمات دون الكافرات قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏لا يحل لمرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد إلا على زوج‏"‏ قال‏:‏ وشرطه الإيمان في الإحداد يقتضي أنه عبادة‏.‏ وأما من فرق بين الأمة والحرة وكذلك الكتابية، فلأنه زعم أن عدة الوفاة أوجبت شيئين باتفاق‏:‏ أحدهما الإحداد، والثاني ترك الخروج، فلما سقط ترك الخروج عن الأمة بتبذلها والحاجة إلى استخدامها سقط عنها منع الزينة‏.‏ وأما اختلافهم في المكاتبة فمن قبل ترددها بين الحرة والأمة‏.‏ وأما الأمة بملك اليمين وأم الولد، فإنما صار الجمهور إلى إسقاط الإحداد عنها لقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد إلا على زوج‏"‏ فعلم بدليل الخطاب أن من عدا ذات الزوج لا يجب عليها إحداد ومن أوجبه على المتوفي عنها زوجها دون المطلقة فتعلق بالظاهر المنطوق به، ومن ألحق المطلقات بهن فمن طريق المعنى، وذلك أنه يظهر من معنى الإحداد أن المقصود به أن لا تتشوف إليها الرجال في العدة ولا تتشوف هي إليهم، وذلك سدا للذريعة لمكان حفظ الأنساب، والله أعلم‏.‏ كمل كتاب الطلاق والحمد لله على آلائه، والشكر على نعمه؛ ويتلوه كتاب البيوع إن شاء الله تعالى‏.‏

 كتاب البيوع‏.‏

-الكلام في البيوع ينحصر في خمس جمل‏:‏ في معرفة أنواعها‏.‏ وفي معرفة شروط الصحة في واحد واحد منها‏.‏ وفي معرفة شروط الفساد‏.‏ وفي معرفة أحكام البيوع الصحيحة‏.‏ وفي معرفة أحكام البيوع الفاسدة‏.‏ فنحن نذكر أنواع البيوع المطلقة، ثم نذكر شروط الفساد والصحة في واحد واحد منها، وأحكام بيوع الصحة، وأحكام البيوع الفاسدة‏.‏ ولما كانت أسباب الفساد والصحة في البيوع منها عامة لجميع أنواع البيوع أو لأكثرها ومنها خاصة، وكذلك الأمر في أحكام الصحة والفساد اقتضى النظر الصناعي أن نذكر المشترك من هذه الأصناف الأربعة‏:‏ أعني العام من أسباب الفساد وأسباب الصحة وأحكام الصحة وأحكام الفساد لجميع البيوع، ثم نذكر الخاص من هذه الأربعة بواحد واحد من البيوع، فينقسم هذا الكتاب باضطرار إلى ستة أجزاء‏:‏ الجزء الأول‏:‏ تعرف فيه أنواع البيوع المطلقة‏.‏ والثاني‏:‏ تعرف فيه أسباب الفساد العامة في البيوع المطلقة أيضا‏:‏ أعني في كلها أو أكثرها إذ كانت أعرف من أسباب الصحة‏.‏ الثالث‏:‏ تعرف فيه أسباب الصحة في البيوع المطلقة أيضا‏.‏ الرابع‏:‏ نذكر فيه أحكام البيوع الصحيحة، أعني الأحكام المشتركة لكل البيوع الصحيحة أو لأكثرها‏.‏ الخامس‏:‏ نذكر فيه أحكام البيوع الفاسدة المشتركة‏:‏ أعني إذا وقعت‏.‏ السادس‏:‏ نذكر فيه نوعا نوعا من البيوع بما يخصه من الصحة والفساد وأحكامها‏.‏

-‏(‏الجزء الأول‏)‏ إن كل معاملة وجدت بين اثنين، فلا يخلو أن تكون عينا بعين، أو عينا بشيء في الذمة، أو ذمة بذمة، وكل واحد من هذه الثلاث إما نسيئة وإما ناجز، وكل واحد من هذه أيضا إما ناجز من الطرفين وإما نسيئة من الطرفين، وإما ناجز من الطرف الواحد نسيئة من الطرف الآخر، فتكون كل أنواع البيوع تسعة‏.‏ فأما النسيئة من الطرفين فلا يجوز بإجماع لا في العين ولا في الذمة، لأنه الدين بالدين المنهى عنه‏.‏ وأسماء هذه البيوع منها ما يكون من قبل صفة العقد وحال العقد؛ ومنها ما يكون من قبل صفة العين المبيعة، وذلك أنها إذا كانت عينا بعين فلا تخلو أن تكون ثمنا بمثمون أو ثمنا بثمن، فإن كانت ثمنا بثمن سمى صرفا، وإن كانت ثمنا بمثمون سمي بيعا مطلقا وكذلك مثمونا بمثمون على الشروط التي تقال بعد، وإن كان عينا بذمة سمي سلما، وإن كان على الخيار سمي بيع خيار، وإن كان على المرابحة سمي بيع مرابحة، وإن كان على المزايدة سمي بيع مزايدة‏.‏

-‏(‏الجزء الثاني‏)‏ وإذا اعتبرت الأسباب التي من قبلها ورد النهي الشرعي في البيوع، وهي أسباب الفساد العامة وجدت أربعة‏:‏ أحدها تحريم عين المبيع‏.‏ والثاني الربا‏.‏ والثالث الغرر‏.‏ والرابع الشروط التي تئول إلى أحد هذين أو لمجموعهما‏.‏ وهذه الأربعة هي بالحقيقة أصول الفساد، وذلك أن النهي إنما تعلق فيها بالبيع من جهة ما هو بيع لا لأمر من خارج‏.‏ وأما التي ورد النهي فيها لأسباب من خارج؛ فمنها الغش؛ ومنها الضرر؛ ومنها لمكان الوقت المستحق بما هو أهم منه؛ ومنها لأنها محرمة البيع‏.‏ ففي هذا الجزء أبواب‏:‏

 الباب الأول في الأعيان المحرمة البيع‏.‏

-وهذه على ضربين‏:‏ نجاسات، وغير نجاسات‏.‏ فأما بيع النجاسات فالأصل في تحريمها حديث جابر، ثبت في الصحيحين قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏إن الله ورسوله حرما بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقيل‏:‏ يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويستصبح بها‏؟‏ فقال‏:‏ لعن الله اليهود حرمت الشحوم عليهم فباعوها وأكلوا أثمانها‏"‏ وقال في الخمر ‏"‏إن الذي حرم شربها حرم بيعها‏"‏ والنجاسات على ضربين‏:‏ ضرب اتفق المسلمون على تحريم بيعها وهي الخمر وأنها نجسة، إلا خلافا شاذا في الخمر‏:‏ أعني في كونها نجسة، والميتة بجميع أجزائها التي تقبل الحياة، وكذلك الخنزير بجميع أجزائه التي تقبل الحياة‏.‏ واختلف في الانتفاع بشعره، فأجازه ابن القاسم ومنه أصبغ‏.‏ وأما القسم الثاني وهي النجاسات التي تدعو الضرورة إلى استعمالها كالرجيع والزبل الذي يتخذ في البساتين، فاختلف في بيعها في المذهب فقيل بمنعها مطلقا، وقيل بإجازتها مطلقا، وقيل بالفرق بين العذرة والزبل‏:‏ أعني إباحة الزبل ومنع العذرة‏.‏ واختلفوا فيما يتخذ من أنياب الفيل لاختلافهم هل هو نجس أم لا‏؟‏ فمن رأى أنه ناب جعله ميتة، ومن رأى أنه قرن معكوس جعل حكمه حكم القرن، والخلاف فيه في المذهب‏.‏ وأما ما حرم بيعه مما ليس بنجس أو مختلف في نجاسته، فمنها الكلب والسنور‏.‏ أما الكلب فاختلفوا في بيعه، فقال الشافعي‏:‏ لا يجوز بيع الكلب أصلا‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ يجوز ذلك‏.‏ وفرق أصحاب مالك بين كلب الماشية والزرع المأذون في اتخاذه وبين ما لا يجوز اتخاذه، فاتفقوا على أن ما لا يجوز اتخاذه لا يجوز بيعه للانتفاع به وإمساكه‏.‏ فأما من أراده للأكل فاختلفوا فيه، فمن أجاز أكله أجاز بيعه، ومن لم يجزه على رواية ابن حبيب لم يجز بيعه‏.‏ واختلفوا أيضا في المأذون في اتخاذه، فقيل هو حرام، وقيل مكروه‏.‏ فأما الشافعي فعمدته شيئان‏:‏ أحدهما ثبوت النهي الوارد عن ثمن الكلب عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ والثاني أن الكلب عنده نجس العين كالخنزير، وقد ذكرنا دليله في ذلك في كتاب الطهارة‏.‏ وأما من أجاز فعمدته أنه طاهر العين غير محرم الأكل، فجاز بيعه كالأشياء الطاهرة العين، وقد تقدم أيضا في كتاب الطهارة استدلال من رأى أنه طاهر العين، وفي كتاب الأطعمة استدلال من رأى أنه حلال‏.‏ ومن فرق أيضا فعمدته أنه غير مباح للأكل ولا مباح الانتفاع به، إلا ما استثناه الحديث من كلب الماشية أو كلب الزرع وما في معناه، ورويت أحاديث غير مشهورة اقترن فيها بالنهي من ثمن الكلب استثناء أثمان الكلاب المباحة الاتخاذ‏.‏ وأما النهي عن ثمن السنور فثابت، ولكن الجمهور على إباحته لأنه طاهر العين مباح المنافع‏.‏ فسبب اختلافهم في الكلاب تعارض الأدلة‏.‏ ومن هذا الباب اختلافهم في بيع الزيت النجس وما ضارعه بعد اتفاقهم على تحريم أكله، فقال مالك‏:‏ لا يجوز بيع الزيت النجس، وبه قال الشافعي؛ وقال أبو حنيفة‏:‏ يجوز إذا بين، وبه قال ابن وهب من أصحاب مالك‏.‏ وحجة من حرمه حديث جابر المتقدم ‏"‏أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح يقول‏:‏ إن الله ورسوله حرما الخمر والميتة والخنزير‏"‏‏.‏ وعمدة من أجازه‏:‏ أنه إذا كان في الشيء أكثر من منفعة واحدة وحرم منه واحدة من تلك المنافع أنه ليس يلزمه أن يحرم منه سائر المنافع، ولا سيما إذا كانت الحاجة إلى المنفعة غير المحرمة كالحاجة إلى المحرمة، فإذا كان الأصل هذا يخرج منه الخمر والميتة والخنزير وبقيت سائر محرمات الأكل على الإباحة‏:‏ أعني أنه إن كان فيها منافع سوى الأكل فبيعت لهذا جاز، ورووا عن علي وابن عباس وابن عمر أنهم أجازوا بيع الزيت النجس ليستصبح به، وفي مذهب مالك جواز الاستصباح به وعمل الصابون مع تحريم بيعه، وأجاز ذلك الشافعي أيضا مع تحريم ثمنه، وهذا كله ضعيف، وقد قيل إن في المذهب رواية أخرى تمنع الاستصباح به وهو ألزم للأصل‏:‏ أعني لتحريم البيع‏.‏ واختلف أيضا في المذهب في غسله وطبخه هل هو مؤثر في عين النجاسة ومزيل لها على قولين‏:‏ أحدهما جواز ذلك، والآخر منعه، وهما مبنيان على أن الزيت إذا خالطته النجاسة هل نجاسته نجاسة عين أو نجاسة مجاورة‏؟‏ فمن رآه نجاسة مجاورة طهره عند الغسل والطبخ، ومن رآه نجاسة عين لم يطهره عند الطبخ والغسل‏.‏ ومن مسائلهم المشهورة في هذا الباب اختلافهم في جواز بيع لبن الآدمية إذا حلب، فمالك والشافعي يجوزانه، وأبو حنيفة لا يجوزه‏.‏ وعمدة من أجاز بيعه أنه لبن أبيح شربه فأبيح بيعه قياسا على لبن سائر الأنعام، وأبو حنيفة يرى تحليله إنما هو لمكان ضرورة الطفل إليه، وأنه في الأصل محرم، إذ لحم ابن آدم محرم، والأصل عندهم أن الألبان تابعة للحوم، فقالوا في قياسهم هكذا الإنسان حيوان لا يؤكل لحمه، فلم يجز بيع لبنه أصله لبن الخنزير والأتان فسبب اختلافهم في هذا الباب تعارض أقيسة الشبه، وفروع هذا الباب كثيرة، وإنما نذكر من المسائل في كل باب مشهور ليجري ذلك مجرى الأصول‏.‏

 الباب الثاني في بيوع الربا‏.‏

-واتفق العلماء على أن الربا يوجد في شيئين‏:‏ في البيع، وفيما تقرر في الذمة من بيع أو سلف أو غير ذلك‏.‏ فأما الربا فيما تقرر في الذمة فهو صنفان‏:‏ صنف متفق عليه، وهو ربا الجاهلية الذي نهي عنه، وذلك أنهم كانوا يسلفون بالزيادة وينظرون، فكانوا يقولون‏:‏ أنظرني أزدك، وهذا هو الذي عناه عليه الصلاة والسلام بقوله في حجة الوداع ‏"‏ألا وإن ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب، والثاني ‏"‏ضع وتعجل‏"‏ وهو مختلف فيه وسنذكره فيما بعد‏:‏ وأما الربا في البيع فإن العلماء أجمعوا على أنه صنفان‏:‏ نسيئة وتفاضل، إلا ما روي عن ابن عباس من إنكاره الربا قي التفاضل لما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏"‏لا ربا إلا في النسيئة وإنما صار جمهور الفقهاء إلى أن الربا في هذين النوعين لثبوت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم‏.‏ والكلام في الربا ينحصر في أربعة فصول‏:‏ الفصل الأول‏:‏ في معرفة الأشياء التي لا يجوز فيها التفاضل، ولا يجوز فيها النَّساء، وتبين علة ذلك‏.‏ الثاني‏:‏ معرفة الأشياء التي يجوز فيها التفاضل ولا يجوز فيها النَّساء‏.‏ الثالث‏:‏ في معرفة ما يجوز فيه الأمران جميعا‏.‏ الرابع‏:‏ في معرفة ما يعد صنفا واحدا مما لا يعد صنفا واحدا‏.‏

 الفصل الأول‏.‏ في معرفة الأشياء التي لا يجوز فيها التفاضل ولا يجوز فيها النَّساء وتبيين علة ذلك‏.‏ فنقول‏:‏

-أجمع العلماء على أن التفاضل والنَّساء مما لا يجوز واحد منهما في الصنف الواحد من الأصناف التي نص عليها في حديث عبادة بن الصامت، إلا ما حكي عن ابن عباس، وحديث عبادة هو قال ‏"‏سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهي عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى‏"‏ فهذا الحديث نص في منع التفاضل في الصنف الواحد من هذه الأعيان‏.‏

وأما منع النَّسيئة فيها فثابت من غير ما حديث، أشهرها حديث عمر بن الخطاب قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏الذهب بالذهب ربا، إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء‏"‏ فتضمن حديث عبادة منع التفاضل في الصنف الواحد، وتضمن أيضا حديث عبادة منع النَّساء في الصنفين من هذه، وإباحة التفاضل، وذلك في بعض الروايات الصحيحة، وذلك أن فيها بعد ذكره منع التفاضل في تلك الستة ‏"‏وبيعوا الذهب بالورق كيف شئتم يدا بيد والبر بالشعير كيف شئتم يدا بيد‏"‏ وهذا كله متفق عليه بين الفقهاء إلا البر بالشعير‏.‏

واختلفوا فيما سوى هذه الستة المنصوص عليها، فقال قوم منهم أهل الظاهر‏:‏ إنما يمتنع التفاضل في صنف صنف من هذه الأصناف الستة فقط، وأن ما عداها لا يمتنع الصنف الواحد منها التفاضل، وقال هؤلاء أيضا‏:‏ إن النَّساء ممتنع في هذه الستة أيضا فقط اتفقت الأصناف أو اختلفت، وهذا أمر متفق عليه‏:‏ أعني امتناع النَّساء فيها مع اختلاف الأصناف، إلا ما حكي عن ابن علية أنه قال‏:‏ إذا اختلف الصنفان جاز التفاضل والنسيئة ما عدا الذهب والفضة‏.‏

فهؤلاء جعلوا النهي المتعلق بأعيان هذه الستة من باب الخاص أريد به الخاص‏.‏

وأما الجمهور من فقهاء الأمصار، فإنهم اتفقوا على أنه من باب الخاص أريد به العام‏.‏

واختلفوا في المعنى العام الذي وقع التنبيه عليه بهذه الأصناف‏:‏ أعني في مفهوم علة التفاضل ومنع النَّساء فيها‏.‏

فالذي استقر عليه حذاق المالكية أن سبب منع التفاضل أما في الأربعة، فالصنف الواحد من المدخر المقتات، وقد قيل الصنف الواحد المدخر وإن لم يكن مقتاتا ومن شرط الادخار عندهم أن يكون في الأكثر، وقال بعض أصحابه‏:‏ الربا في الصنف المدخر وإن كان نادر الادخار‏.‏

وأما العلة عندهم في منع التفاضل في الذهب والفضة فهو الصنف الواحد أيضا مع كونهما رءوسا للأثمان وقيما للمتلفات، وهذه العلة هي التي تعرف عندهم بالقاصرة، لأنها غير موجودة عندهم في غير الذهب والفضة‏.‏

وأما علة منع النَّساء عند المالكية في الأربعة المنصوص عليها فهو الطعم والادخار دون اتفاق الصنف، ولذلك إذا اختلفت أصنافها جاز عندهم التفاضل دون النسيئة، ولذلك يجوز التفاضل عندهم في المطعومات التي ليست مدخرة‏:‏ أعني في الصنف الواحد منها، ولا يجوز النَّساء‏.‏

أما جواز التفاضل، فلكونها ليست مدخرة، وقد قيل إن الادخار شرط في تحريم التفاضل في الصنف الواحد‏.‏

وأما منع النَّساء فيها فلكونها مطعومة مدخرة، وقد قلنا إن الطعم بإطلاق علة لمنع النَّساء في المطعومات‏.‏

وأما الشافعية فعلة منع التفاضل عندهم في هذه الأربعة هو الطعم فقط مع اتفاق الصنف الواحد‏.‏

وأما علة النَّساء فالطعم دون اعتبار الصنف مثل قول مالك‏.‏

وأما الحنفية فعلة منع التفاضل عندهم في الستة واحدة وهو الكيل أو الوزن مع اتفاق الصنف، وعلة النَّساء فيها اختلاف الصنف ما عدا النحاس والذهب، فإن الإجماع انعقد على أنه يجوز فيها النَّساء، ووافق الشافعي مالكا في علة منع التفاضل والنَّساء في الذهب والفضة، أعني أن كونهما رءوسا للأثمان وقيما للمتلفات هو عندهم علة منع النسيئة إذا اختلف الصنف، فإذا اتفقا منع التفاضل، والحنفية تعتبر في المكيل قدرا يتأتى فيه الكيل، وسيأتي أحكام الدنانير والدراهم بما يخصها في كتاب الصرف، وأما هاهنا فالمقصود هو تبيين مذاهب الفقهاء في علل الربا المطلق في هذه الأشياء، وذكر عمدة دليل كل فريق منهم، فنقول‏:‏ إن الذين قصروا صنف الربا على هذه الأصناف الستة فهم أحد صنفين‏:‏ إما قوم نفوا القياس في الشرع‏:‏ أعني استنباط العلل من الألفاظ وهم الظاهرية، وإما قوم نفوا قياس الشبه وذلك أن جميع من ألحق المسكوت ههنا بالمنطوق به، فإنما ألحقه بقياس الشبه لا بقياس العلة، إلا ما حكي عن ابن الماجشون أنه اعتبر في ذلك المالية وقال‏:‏ علة منع الربا إنما هي حياطة الأموال، يريد منع العين‏.‏

وأما القاضي أبو بكر الباقلاني فلما كان قياس الشبه عنده ضعيفا، وكان قياس المعنى عنده أقوى منه اعتبر في هذا الموضع قياس المعنى، إذ لم يتأت له قياس علة، فألحق الزبيب فقط بهذه الأصناف الأربعة، لأنه زعم أنه في معنى التمر، ولكل واحد من هؤلاء‏:‏ أعني من القائسين دليل في استنباط الشبه الذي اعتبره في إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به من هذه الأربعة‏.‏

وأما الشافعية فإنهم قالوا في تثبيت علتهم الشبهية‏:‏ إن الحكم إذا علق باسم مشتق دل على أن ذلك المعنى الذي اشتق منه الاسم هو علة الحكم مثل قوله تعالى ‏(‏والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما‏)‏ فلما علق الحكم بالإسم المشتق وهو السارق علم أن الحكم متعلق بنفس السرقة‏.‏

قالوا‏:‏ وإذا كان هذا هكذا، وكان قد جاء من حديث سعيد بن عبد الله أنه قال‏:‏ كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏الطعام بالطعام مثلا بمثل‏"‏ فمن البين أن الطعم هو الذي علق به الحكم‏.‏

وأما المالكية فإنها زادت على الطعم إما صفة واحدة وهو الإدخار على ما في الموطأ، وإما صفتين وهو الإدخار والإقتيات على ما اختاره البغداديون، وتمسكت في استنباط هذه العلة بأنه لو كان المقصود هو الطعم وحده لاكتفى بالتنبيه على ذلك بالنص على واحد من تلك الأربعة أصناف المذكورة، فلما ذكر منها عددا علم أنه قصد بكل واحد منها التنبيه على مافي معناه، وهي كلها يجمعها الإقتيات والإدخار‏.‏

أما البر والشعير فنبه بهما على أصناف الحبوب المدخرة، ونبه بالتمر على جميع أنواع الحلاوات المدخرة كالسكر والعسل والزبيب، ونبه بالملح على جميع التوابل المدخرة لإصلاح الطعام، وأيضا فإنهم قالوا‏:‏ لما كان معقول المعنى في الربا إنما هو أن لا يغبن بعض الناس بعضا وأن تحفظ أموالهم، فواجب أن يكون ذلك في أصول المعايش وهي الأقوات‏.‏

وأما الحنفية فعمدتهم في اعتبار المكيل والموزون أنه صلى الله عليه وسلم لما علق التحليل باتفاق الصنف واتفاق القدر، وعلق التحريم باتفاق الصنف واختلاف القدر في قوله صلى الله عليه وسلم لعامله بخيبر من حديث أبي سعيد وغيره ‏"‏إلا كيلا بكيل يدا بيد‏"‏ رأوا أن التقدير أعني الكيل أو الوزن هو المؤثر في الحكم كتأثير الصنف، وربما احتجوا بأحاديث ليست مشهورة فيها تنبيه قوي على اعتبار الكيل أو الوزن‏.‏

منها أنهم رووا في بعض الأحاديث المتضمنه المسميات المنصوص عليها في حديث عبادة زيادة، وهي كذلك ما يكال ويوزن، وفي بعضها‏:‏ وكذلك المكيال والميزان، هذا نص لو صحت الأحاديث، ولكن إذا تؤمل الأمرمن طريق المعنى ظهر ‏{‏والله أعلم‏}‏ أن علتهم أولى العلل، وذلك أنه يظهر من الشرع أن المقصود بتحريم الربا إنما هو لمكان الغبن الكثير الذي فيه، وأن العدل في المعاملات إنما هو مقاربة التساوي، ولذلك لما عسر إدراك التساوي في الأشياء المختلفة الذوات جعل الدينار والدرهم لتقويمها‏:‏ أعني تقديرها، ولما كانت الأشياء المختلفة الذوات‏:‏ أعني غير الموزونة والمكيلة العدل فيها إنما هو في وجود النسبة، أعني أن تكون نسبة قيمة أحد الشيئين إلى جنسه نسبة قيمة الشيء لآخر إلى جنسه، مثال ذلك أن العدل إذا باع إنسان فرسا بثياب هو أن تكون نسبة قيمة ذلك الفرس إلى الأفراس هي نسبة قيمة ذلك الثوب إلى الثياب، فإن كان ذلك الفرس قيمته خمسون فيجب أن تكون تلك الثياب قيمتها خمسون، فليكن مثلا الذي يساوي هذا القدر عددها هو عشرة أثواب، فإذا اختلاف هذه المبيعات بعصها ببعض في العدد واجبة في المعاملة العدالة، أعني أن يكون عديل فرس عشرة أثواب في المثل‏.‏

وأما الأشياء المكيلة والموزونة، فلما كانت ليست تختلف كل الاختلاف، وكانت منافعها متقاربة ولم تكن حاجة ضرورية لمن كان عنده منها صنف أن يستبدله بذلك الصنف بعينه إلا على جهة السرف كان العدل في هذا إنما هو بوجود التساوي في الكيل أو الوزن إذ كانت لا تتفاوت في المنافع، وأيضا فإن منع التفاضل في هذه الأشياء يوجب أن لا يقع فيها تعامل لكون منافعها غير مختلفة، والتعامل إنما يضطر إليه في المنافع المختلفة، فإذا منع التفاضل في هذه الأشياء أعني المكيلة والموزونة علتان‏:‏ إحداهما وجود العدل فيها، والثاني منع المعاملة إذا كانت المعاملة بها من باب السرف‏.‏

وأما الدينار والدرهم فعلة المنع فيها أظهر إذ كانت هذه ليس المقصود منها الربح، وإنما المقصود بها تقدير الأشياء التي لها منافع ضرورية‏.‏

روى مالك عن سعيد بن المسيب أنه كان يعتبر في علة الربا في هذه الأصناف الكيل والطعم، وهو معنى جيد لكون الطعم ضروريا في أقوات الناس، فإنه يشبه أن يكون حفظ العين وحفظ السرف فيما هو قوت أهم منه فيما ليس هو قوتا‏.‏

وقد روي عن بعض التابعين أنه اعتبر في الربا الأجناس التي تجب فيها الزكاة، وعن بعضهم الانتفاع مطلقا????????

‏:‏ أعني المالية، وهو مذهب ابن الماجشون‏.‏